الثقافة والثورة

سيّداً في ملكوت الكلام، عالمياً متعالياً، بالتأمّل يحيا، وللتأمّل. هكذا كان الفكر، على امتداد قرون خلت، في انفصام مع الواقع، له الثبات المطلق، وللتاريخ المادي التغّير والحركة.
كان يحلو له بين حين وحين، أن يطُلَّ من علياء تجريده على الواقع، فيدينه تارة، وغالباً ما يعذره. لكنهّ من خارج كان يحكم، وما كان يقوى عليه. وكان، حين يتوق إلى واقع آخر، أو أفضل، يحكم، أو يتخيّل، أعني يتأوّل. وما كان يرتبط بقوى التغيير الثوري حين كان يطمح إليه. وما كان يدرك شروط هذا التغيير وأدواته. لذا، كان يجنح نحو الطوباوية، في أشكال شتّى، فيقدّم للواقع ذريعة بقاء وحجة تأبُّد.

أي موقع كان يمكن أن يكون للمثقف في مثل هذا الانفصام المتجدّد بين الفكر والواقع؟
موقع المنبوذ، أو موقع خادم السلطان، سواء أكان شاعراً أم فقيهاً، حليماً، فيلسوفاً أم أديباً. وما كان الفكر، في الموقعين، بقادر على أن يغيّر. كان يرفض، أحياناً، أو يبُرّر. يهجو أو يمدح، وفي الحالتين يرتزق. أو يتصعلّك، إن خرج على السائد ونظامه، كأنّه محكوم بموت يتأجّل. يحتجُّ على الشرع ويثور، لكن، من موقع العاجز عن نقض الشرع. فيتصوّف. يستبدل الأرض بالسماء، ويزهد. أو يستكين للدّنيا وللآخرة، فيَعُقلنِ الإثنتين في نظام الاستبداد، لسلطته يرضخ.
والسلطة، بالدين، تبدو مطلقة. وهي المقدّسة، في الغيب وبالغيب. وهي السلطة فوق الرفض وفوق النقض، سيفها على الرقاب مسلط والرقاب خاضعة راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرّد. إذّاك يحُلّ دمهُ. حتّى لو كان الحلّاج أو السهروردي. أما ابن تيمية، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التمرّد والمتمرّدين، في كلّ عصر، يشهران سلاح الدين، سلاح السلطة، فيكبّلان العقل، يرهبان الروح، ويئدان الجسد.

لم يكن للمثقّف، في عالم كهذا، سوى أن يختار بين الاستتباع أو الموت، بين أن ينطق بلغة الاستبداد ونظامه، أو أن ينطق بلغة الصّمت أعني بلغة المكبوت ورموزه. هكذا كانت الثقافة تجري في صراع بين اثنتين: واحدة هي ثقافة الأسياد، بتياراتها المختلفة المتباينة، أو أخرى هي ثقافة المقهورين، بأنواعها المتعدّدة. لم تكن الثقافة يوماً واحدة، وليس من الجائز حصرها في ثقافة رسمية، أو مسيطرة، أو معلنة. كانت ثقافة مناهضة لهذه، مكبوتة مستترة، لعلها أكثر شيوعاً من الأولى، أو أصدق تعبيراً عن ضمير الناس وطموحاتهم. كانت، مثلاً، في حكايات ألف ليلة وليلة، أو في عروض خيال الظل، أو في سيّر الأبطال الشعبية. وهي، بالتأكيد، أكثر تمرّداً على الواقع القائم، وأشد رفضاً له. لكنها عاجزة كانت عن تغيير العالم، فيما هي كانت تطمح إليه.

ليس بالحلم تكون الثورة، وإن كان الحلم شرطاً من شروطها. ومن شروط الثورة أن يتوفّر لها وعي متسّق، إليه تستند، وبه تستبق الممكن. أعني الضروري. ومن شروطها أن يتجسّد وعيها المتسّق هذا، أي العلمي، وفي وعي القائمين بها، جماهير الكادحين، المنتجين بأيديهم وأدمغتهم، صانعو التاريخ، بوعيهم المُمارَس يستحيل الوعي النظريّ قوّةُ ماديّةً تدّكُ أعمدة القائم، وتهيّئ لولادة الجديد.
لم يكن للثقافة، في زمن انفصام الفكر عن الواقع، دور في تغيير العالم، إلّا ما لا يكاد يذكر. كانت، كلّما حاولتْ القيام بهذا الدور، تُقمع وتُهان، باسم الدين غالباً، وبتهمة الكفر أو الزندقة، وبتهمة التحريف أو الهرطقة. فالثقافي، حتى في ثقافة الأسياد، يرتدٌّ عليهم وعليها، فهو المبتدع في فعل الحرية، يتهدّد ويزعزع. إنها القاعدة في كلّ العصور: كلّما انحازت الثقافة إلى جديد ضدّ القديم، إلى المتغيّر ضدّ الثابت، إلى النّار ضدّ الرماد، وإلى الحياة والحلُم، اضطُهِدت واضطُهِدَ المثقفون، أحبّاء الحرية والآفاق الزرقاء الرحبة.

إنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكونيّ، ضدّ كلّ ظلامية، أو لا تكون. تلك مشكلة المثقّف والثقافة بامتياز. وهي قضية الثورة في آن.

ثم التحمت، لأوّل مرّة في تاريخ الفكر، نظرية الثورة بحركة الثورة، فالتأم الفكر، في نشاطه المُعرّف نفسه، بقوى التغيير، فلم تعد الثورة تفتقد فكرها، ولم يعد الفكر سجين تأمّلاته. لقد بات الممكن قابلاً للتحقيق، فهو الضروري في حركة التاريخ المادي، لا يتحقّق إلّا بنضال ثوري. والنضال وعْدُ الكادحين بأن أنظمة الرجعية والاستبداد إلى زوال. وللنضال شروط وأشكال وأدوات. من شروطه أن يهتدي بعلم الثورة، أعني بتلك النظرية التي أسّسَها ماركس، وأقامت ثورات الشعوب المُضطَهدة على صحتها البرهان، بالملموس التاريخي. ومن أشكاله ما تمارسه قوى المقاومة الوطنية في كفاحها ضدّ الاحتلال، وضدّ الفاشية والطائفية. ومن أدواته الأولى الحزب الثوري. حزب العمال والفلاحين والمثقّفين.

منذ أن التحمت النظرية بالثورة، لم تعد الثقافة حكراً على نخبة من الكهنة. فلقد عمّت ضرورتها حتى بات على العامل، كي يكون عاملاً، أن يكون بأدوات إنتاجه المادي مثقّفاً، وعلى المثقّف، كي يكون كذلك، أن يكون بأدوات إنتاجه الفكري كادحاً، والإنتاجان واحد في سيرورة التاريخ الثوري، هذا الذي يؤسس لحرية اليد المبدعة. ليست الثقافة كتابة، وإن كانت الكتابة من أركانها. إنها تملكُ للعالم في حلم، أو حقل أو مصنع. أما المثقفون، فهم المنتجون، بأيديهم وأدمغتهم، ضدّ أنظمة القمع والاستغلال والجهالة، فكراً، فناً وجمالاً هو حبُّ للحياة. وأما غير المنتجين، القابعين في قبحهم، فهم الأسياد بأنظمتهم. وأما هدم الأنظمة، فهو مَهمة الثورة في كلّ آن.

والثورة في لبنان ما تزال فاعلة في سيرورة حرب أهلية فجّرتها الرجعية لإنقاذ نظامها الطائفي وفرض الفاشية، فانقلب عليها، وعلى نظامها، ثورة وطنية ديمقراطية تخلخل وتصدّع، لا يخيفها عائقٌ، فهي التي تُخيف، بها ينهار عالم بكامله، ويشرئب إلى الولادة آخر.

تتفكّك نظُمُ من الفكر والاقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بدون عنف، تتصدّى لجديد ينهض في حشرجة الحاضر، وتقاوم في أشكال تتجدّد بتجدّد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها على موعد الموت.

إذن، فليدخل الفكر المناضل في صراع يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الضاحكة. فهو اليانع أبداً، وهو اليقِظ الدائم، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذّر. يستبق التجربة بعين النظرية، ولا يتخاذل حين يفُاجأَ: يتوثّب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشامل، ورحابة أفق تتّسع لكلّ جديد. هكذا يكتسب كلُّ نشاط نظري طابعاً نضالياً، ويتوق كلّ نشاط ثوري إلى التعقلن في النظرية، فتتأكد، بالتحام الناشطين في الملموس التاريخي، ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية.

والحرب في لبنان حربان: حرب على إسرائيل، وحرب على الفاشية والطائفية، لكن الرجعية، بأطرافها المتعدّدة، تستميت في محاولة إظهارها مظهر الحرب الطائفية. وتفشل دوماً في المحاولة، برغم كلّ ما أحاط وما يحيط بهذه الحرب من وحول الطوائف. وكيف تكون الحرب طائفية حين يكون الموقف من إسرائيل، مثلاً، محوراً للصراع فيها؟ وكيف تكون طائفية حين يحتدم فيها الصراع بين القوى الرجعية الطائفية وهي من مختلف الطوائف والقوى الوطنية الديمقراطية وهي أيضاً من طوائف متعدّدة، حول الموقف من هوية لبنان، أو من الثورة الفلسطينية، أو من الامبريالية، أو من الاحتلال الإسرائيلي، أو من قوات الحلف الأطلسي، أو من اتفاق 17 أياّر، أو الاتفاق الثلاثي نفسه، ومن "الاقتصاد الحر" أيضاً، بل حتى من الطائفيةّ إيّاها، بما هي النظام السياسي لسيطرة البرجوازية اللبنانية؟ ليست الحرب طائفية، ولا الصراع فيها بطائفي. إنه، في أساسه، صراع بين قوى التغيير الثوري للنظام السياسي الطائفي، والقوى الفاشية الطائفية التي تحاول، عبثاً، تأييد هذا النظام. إنه، باختصار، صراع طبقي عنيف بين قوى الثورة والقوى المضادة للثورة، في سيرورة حرب أهلية هي في لبنان سيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية. فله، إذن، سمة العصر في زمن الانتقال الثوري من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وله، تالياً، طابع كوني هو طابع الصراع إيّاه المحتدم، ليس بين معسكر الاشتراكية ومعسكر الامبريالية، أفقياً، وحسب،
بل رأسياً أيضاً، أو عمودياً، في كلّ من بلدان المنظومة الرأسمالية العالمية، بما فيها، بالطبع، البلدان العربية. فما هو موقع الثقافة والمثقّفين من هذا الصراع؟ ما هو موقفها وموقفهم منه؟ ما هو دورها ودورهم؟. والسؤال لا ينحصر في لبنان، ما دام الصراع فيه هو إيّاه، بطابعه الكوني نفسه، في جميع البلدان العربية، وإن اختلفت شروطه بين بلد
وآخر، وتنوّعت أشكاله، أو تفاوت تطوّره. فالحروب الأهلية تتهدّد بلدان العالم العربي جميعها بلا استثناء، وآلية الصراع فيها تنبئ بإمكان اندلاعها في كلّ آن. وأنظمة البرجوازيات العربية في أزمة. والتغيير الثوري بات ضرورة ملّحة في كلٍّ منها، وحاجة يومية في نضال الجماهير الكادحة. لكن الثورة في انتظار قيادتها. والثورة سيرورة طويلة معقّدة، ولها مراحل وأحوال. وعلى الثقافة تطرح سؤالها: أمع الثورة أم ضدّها؟ وعلى المثقفين تطرح السؤال: أمع التغيير أم ضدّه؟ والسؤال سياسي بامتياز. وثقافي في آن.

لا تعارُض بين السياسة والثقافة. وكيف يكون تعارضٌ بين الاثنتين، كيف يصّح اختيار الواحدة ضدّ الأخرى في منظور التاريخ الثوري؟ لئن كانت في البدء الكلمة، فلقد كانت، بدئياً، مبدعة. وللحرية كانت، ضدّ القمع، تناضل وتثابر في رفض الظلم، وللحبِّ كانت في قلب الإنسان. تؤسس في فعل التغيير معناها. وتجود بالجميل يحتجّ على قبح العالم في نُظُم الاستبداد. هكذا تتكوّن الثقافة دوماً ضديّاًّ، تنمو وتتكامل في صراع مستمرٍّ ضدّ كلّ قديم يموت. وفي البدء كانت السياسة، صراعاً مستمراً بين قوى التغيير الثوري وقوى تأبيد الواقع. يخطئ من يظن أن السياسة نظام، حكم، أو مؤسسات، أو أنها بالدولة تتحدّد. إنها، في ذلك، من موقع نظر البرجوازية وإيديولوجيتها المسيطرة. لكنها، في منظور العلم والتاريخ، صراع طبقي شامل كلّ حقول الحياة، لا هامش فيه للرافض، بالوهم، أن يكون له فيه موقع. إنها حركة التاريخ في مجرى صراع له المتن، والهامش فقط لمن قد مات، أو كان، من موقعه في الماضي، رفيق درب للموت.

إذن، لكلّ ناشط في الحياة أن يأخذ موقعاً وأن يحدّد موقفاً: أمع الثورة أم ضدّها؟ بالكلمة الفاعلة واليد المبدعة. والثورة ليست لفظاً أو تجريداً، إنها طمي الأرض لا يعرفها من يخاف على يديه من وحل الأرض.
وكيف تكون الثورة نظيفة، وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متُسّخة به، وتهدمه وتغتسل بوعد أن الإنسانَ جميلٌ حرٌّ...؟ فلتتوضح كلّ المواقف، ولتتحدّد كلّ المواقع، ولتكن المجابهة في الضوء. كيف يمكن للثقافة أن يكون لها موقع الهامش في معركة التغيير الثوري ضدّ الفاشية والطائفية؟ كيف يمكن للمثقف أن يستقيل من نضال ينتصر للديمقراطية، هو اوكسجين الفكر والأدب والفن؟

بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للديمقراطية ضدّ الفاشية، للحرية ضدّ الإرهاب، للعقل والحبّ والخيال، وللجمال ضدّ العدمية وكلّ ظلامية، في لبنان الحرب الأهلية، وفي كلّ بلد من عالمنا العربي، وعلى امتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثورة في كلّ آن، مثقفّ مزيف، وثقافته مخادعة مرائية. إذا تكلم عن الثورة، في شعره أو نثره، فعلى الثورة بالمجرّد يتكلم، من خارج كلّ زمان ومكان، لا عليها في حركة التاريخ الفعلية، وشروطها الملموسة. وإذ يعلن، في نرجسية حمقاء أنّه يريدها، فبيضاء لا تهدم ولا تغيّر. تُبقي القائم بنظامه، وتحنّ إليه إذا تزلزل أو احتضر. كثيرون هم الذين في لبنان يحنّنون إلى لبنان ما قبل الحرب الأهلية، ويريدون التغيير للعودة إلى الماضي، ويريدونه إيقافاً لانهيارات الزمان. أما الآتي، فمن الغيب، إلى الغيب. إنه موقف المنهزم، لا بصراعٍ، بل بتسليم واستكانة. إنه موقف من يُصنع التاريخ بدونه. وله في التاريخ موقع ترفضه الثقافة، إذ الثقافة، في تعريفها، مقاومة. فإذا ساوت بين القاتل والقتيل انهزمت في عدميتها، فانتصر القاتل، وكانت، في صمتها، شريكته.

أي ثقافة هذه التي تتساوى فيها الأضداد، فيختلط الأسود بالأبيض في رمادية اللون والمعنى؟ إنها الثقافة المسيطرة بسيطرة البرجوازية وإيديولوجيتها، في أشكال منها قد تتخالف، لكنها، في اللحظات التاريخية الحاسمة، دوماً تتحالف ضدّ الثقافة الثورية النقيض. هكذا تنعقد بين العدمية والظلامية مثلاً، أو بين هذه وتلك، وأشكال من الفكر الديني، تحالفات ترعاها البرجوازية، بل تتوسّلها في مجابهة الفكر المادي، محور الثقافة الثورية وقطبها الجاذب. أليس من الطبيعي أن ينعقد التحالف وطيداً في مجرى هذه الثقافة بين جميع المثقفين المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية، الطامحين إلى تغيير العالم وتحريره من سيطرة الرجعية والامبريالية؟ أليس من الضروري أن تتشابك أيدي الكادحين جميعاً في زمن الثورات العلمية ضدّ الجهل تُعمِّمه أنظمة البرجوازيات العربية؟

فرحة للثقافة والمثقفين أن تتهاوى أنظمة القمع هذه في كلّ أرجاء الوطن العربي، بفعل نضال الثوريين يتوحّدون، على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية، في حركة ثورية جديدة واحدة، تعيد إلى العالم نضارته، وبها التاريخ يستوثق. فالثورة ليست حكراً على فكر، أو حزب، أو طبقة. إنها سيرورة تتكامل في الاختلاف، وتغتني بروافد التغيير تصبُّ فيها من كلّ صوب، في كلّ مرحلة. لكنها تتعطّل، أو تظلّ زاحفة، أو منحرفة، إن لم يكن للطبقة العاملة فيها موقع هو موقع الطبقة الهيمنيّة النقيض، ودور هو دورها التاريخي نفسه، ليس في قيادة الانتقال إلى الاشتراكية وحسب، بل في كلّ مرحلة من سيرورة هذا الانتقال. لا بقرارٍ، بل بالممارسة الثورية، وعلى قاعدة نهجها الطبقي الصحيح، وبقيادة حزبها الشيوعي، تحتل الطبقة العاملة موقعها ذاك في الحركة الثورية، وتضطلع بدورها. والتاريخ الثوري لا يرحم متخلُفاً عنه، ولا هو يسير بعكس منطقه. فلئن فعل، فلِأجَل،ٍ لا تلبث، بعده، أن تستعيد سيرورته الثورية منطقها. ومنطقها أن تنتكّس الثورة، حتى في طابعها الوطني الديمقراطي، فتراوح، فتنهزم إلى مواقع رجعية، كلّما استأثرت بقيادتها قوى غير هيمنية، من فئات وسطية تحتل في السلطة موقع السيطرة الطبقية، همهّا الأول ألّا تستكمل الثورة سيرورتها، بحسب منطقها الضروري في تقويض علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة بارتباطها التبعي بالإمبريالية، وفي إقامة السلطة السياسية الثورية القادرة على انجاز هذه المهمة.
بين منطق الثورة ومنطق هذه القيادة غير الثورية تناقض يشلّ الحركة الثورية ويضعها في أزمة تنعكس في ممارسات سلطوية قمعية ضدّ قوى الثورة وجماهيرها، وبالتحديد، ضدّ الطبقة العاملة التي هي، بحزبها الطليعي ونهجها الوطني الصحيح، النقيض الثوري. إن الحلّ الجذري لتلك التناقضات بات يفرض، بضرورة منطقه، ضرورة تغيير تلك القيادة الطبقية لسيرورة الثورة الوطنية الديمقراطية، واستنهاض حركة ثورية هي، في اتّساقها مع مَهماتها، من نوع جديد، ولها وحدها القيادة. ومن أولى خصائصها، أن تسعى فيها الطبقة الهيمنية النقيض إلى أن يكون نهجها الطبقي نفسه، في سعيها إلى السلطة، نهج الحركة بكاملها. لا بالقمع، بالممارسة الديمقراطية الثورية.

لأن كان القمع أو الفئوية، في لغة أخرى، أو الاستئثار بالسلطة، أو الانفراد بالقيادة هو الشكل الطبقي الذي يحكم علاقة القوى غير الهيمنية، في وجودها في موقع الهيمنة الطبقية، بأطراف التحالف الطبقي الثوري، وكان، بالتالي ضرورياً بضرورة التناقض في أن تحتل تلك القوى هذا الموقع، فإن الديمقراطية، كناظم للعلاقة بين أطراف التحالف إيّاه، وحق للجميع في الاختلاف، واحترام لهذا الحق وممارسته، أقول إن الديمقراطية هذه هي، بالعكس، الشكل الطبيعي، أعني الضروري، الذي يحكم علاقة الطبقية. ذلك أن علاقة الاتّساق والتلاؤم بينها وبين موقعها هذا هي، بالضبط، الأساس المادي لضرورة الديمقراطية في علاقة القوى الثورية بعضها ببعض. وهي ضمانة تحقق هذه الضرورة.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 377
`


مهدي عامل