التدقيق الجنائي... بين ستر المفضوح وفضح المستور

يواجه الشعب اللبناني أكبر عملية سطو مقونن على إدخاراته وودائعه وانتظام حياته متزامناً مع ازدياد المآسي والكوارث الإجتماعية، وإنهيار مالي ومصرفي، وفي غياب أية رؤية إقتصادية وإجتماعية لحلّ الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية من قبل المنظومة السياسية التي تسلّطت على البلاد منذ سنوات طويلة متحالفةً كقوى محاصصة طائفية ومذهبية مع رأس المال المالي والمصرفي .وبرغم مُضيّ سنة كاملة على انتفاضة الشعب اللبناني في الشوارع والساحات ليل نهار على امتداد مساحة الوطن، لم تستجب هذه السلطة لمطالب الانتفاضة الشعبية بل على العكس عمدت إلى التسويف والمماطلة، ولم تُقِم وزناً لهذه المطالب المحقّة بل أفسحت المجال للتدخلات الخارجية والضغوط الدولية وهو ما برز من مجيء الموفد الفرنسي وتكرار التصريحات لوزير الخارجية الأميركي حول الوضع الداخلي اللبناني .

إلّا انّ أبرز ما كشف طبيعة هذه المنظومة السياسية، الأزمة الاقتصادية الراهنة التي نعاني منها نتيجة تفاقم أزمة النظام السياسي الطائفي وممارساته الزبائنية وسياساته الاقتصادية النيوليبرالية، كذلك في تبعيته السياسية للخارج ورهن مستقبل الشعب اللبناني للهيئات والصناديق الدولية، وتجلّى ذلك في الورقة الفرنسية واجتماع " قصر الصنوبر" الذي حاول إعادة إنتاج النظام القديم المتهالك ومحاولة الإلتفاف على مطالب الشعب اللبناني عبر تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة وتنفيذ مقرّرات الورقة الفرنسية المسمّاة إصلاحية، لإعادة إقراض الدولة اللبنانية عبر صندوق النقد الدولي وبالتالي مواصلة سياسة الإرتهان والتبعية وتعميق شبكة المصالح المشتركة ما بين زعامات القوى السياسية الطائفية المتنفّذة وحيتان المال.

أمّا أبرز ما جاءت به الورقة الفرنسية" التدقيق الجنائي" بكامل حسابات مصرف لبنان والذي وافقت عليه مختلف قوى إجتماع " قصر الصنوبر"، وهو ما ضجّت به الساحة السياسية خلال الأشهر الماضية والتي وافق مجلس الوزراء باجتماعه تاريخ ٢٦ آذار الماضي على اقتراح وزير المالية الإستعانة بشركة "الفاريز ومارسال" للقيام بمهمة التحقيق الجنائي بكلفة مليونين ومئتين الف دولار أميركي ومع شركتي " oliver wayman و kpmg " للتدقيق المحاسبي وهو قرار وصف بالإنجاز وخطوة أساسية على طريق إصلاح المالية العامة، ولا سيّما أنه القرار الأول من نوعه. إلّا أنّ هذا القرار بقي رمزياً، حيث لم تتمكن الشركة من تأدية عملها، على اعتبار أن المستندات التي حصلت عليها من "مصرف لبنان " بقيت غير كافية ممّا منعها من القيام بالمَهمة الموكلة إليها، وبعد مرور أشهر وأمام تهديد " الفاريز ومارسال" بفضّ العقد والتراجع عنه، تقرّر الخميس في الخامس من تشرين الثاني بعد اجتماع ترأسه رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا بحضور وزير المالية غازي وزني وممثل عن الشركة تمديد المهلة المطلوبة لتسليم المستندات اللازمة ثلاثة أشهر إضافية، على أن يتم خلالها تسليم بعض المستندات، علماً أن فكرة التمديد اقترحها بحسب المعلومات وزير المالية مراهناً على تأجيل الموضوع وترحيله إلى الحكومة الجديدة التي كُلّف بتشكيلها سعد الحريري.

رافق هذا المسار كباشٌ سياسي بين مكوّنات المنظومة السياسية نفسها، مرّةً جرى التصويب على أن هذه الشركات لديها فروع داخل كيان العدوّ، ومرّة على قاعدة أن أحد كبار موظفي هذه الشركة هو خرّيج إحدى جامعات العدوّ الإسرائيلي، وهناك تخوّف من استخدام المعلومات لصالح كيان العدوّ. إلّا أنّ الواضح في هذا المسار الذي رافق تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة، هو استخدام هذا الملف في صراع المحاصصة بين مكوّنات المنظومة نفسها، فرئيس الجمهورية سعى من خلال ذلك إلى إحراج حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة لإخراجه وإقالته وتعيين أحد المقرّبين لديه. كذلك سعي المنظومة السياسية المتنفّذة في السلطة والإدارة منذ الطائف حتى اليوم لضرب هذا القرار الذي يستهدف التدقيق بكلِّ ليرة أُنفقت في مختلف القطاعات والمؤسسات وفي عشرات المليارات التي أُهدرت في القطاع العام من الكهرباء والخلوي والجباية والضرائب التي بلغت رقماً مهولاً قارب لغاية العام 2018 / 149 مليار دولار أميركي يُضاف إليها مبلغ 86 مليار دولار وهو رقم استدانة من الخارج ومن المصارف اللبنانية، كذلك في الإنفاق على قطاع الكهرباء خلال نفس الفترة مبلغ 24 مليار دولار أميركي يضاف إليهم مبلغ 12 مليار دولار جباية فواتير الكهرباء خلال الفترة نفسها ولا زالت الكهرباء 12 ساعه أو أقلّ من ذلك، مع العلم أنّ لبنان يحتاج وفق غالبية الخبراء مبلغ مليار دولار أميركي لتصبح الكهرباء 24/ 24 وتصبح ذات مدخول ومُنتجة لكنهم بالتأكيد لا يريدون ذلك. كذلك فيما أنفقت الدولة اللبنانية بدل فوائد للمصارف خلال 26 عاماً مبلغ 84 مليار دولار ضمن سياسة ممنهجة لنهب الدولة وإفقارها وتدمير اقتصادها، يُضاف إليها التوظيف العشوائي في إدارات الدولة وما كبّد الخزينة من خسائر جرّاء التخمة الوظيفية في المؤسسات العامة.

لذلك سعت القوى السياسية التي حكمت لبنان وتولّت الإدارات العامة منذ سنوات طويلة، إلى ضرب هذا القرار أو تعطيله منذ البداية:
أولاً: من خلال نصّ ومضمون العقد الموقّع الذي أكّد على مراعاة القوانين اللبنانية المرعية الإجراء، والذي يستند في أساسه على نص المادة ١٥١ من قانون النقد والتسليف أسوةً بقانون " السرية المصرفية" الصادر عام ١٩٥٦، وهو ما سنعود إليه لاحقاً.
ثانياً: سعي كلّ طرف للتمترس خلف حجج توصل كلّ فريق إلى هدفه، خوفاً من فضح حجم إستفادة القوى السياسية من قروض المصرف وارباح المصارف على حساب المواطن وخزينة الدولة، فالمعترضون على التدقيق الجنائي استندوا إلى قانوني النقد والتسليف والسرية المصرفية لإعطاء الحاكم الحق بالإمتناع عن تسليم حسابات الدولة، بينما تبرّع نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي - المقرّب من رئيس المجلس- بدقّ ناقوس الخطر حيال رفع السرّية المصرفية عن حسابات المُودعين الأجانب الذين لجأوا إلى المصارف اللبنانية بسببها، علماً أنّ المودعين الأجانب وغير الأجانب باتوا اليوم غير قادرين على سحب أموالهم ومدّخراتهم، وقد تكون هذه السرّية آخر إهتماماتهم في المرحلة الحالية.

ليس من المستغرب هذا السعي المُفرط لقوى السلطة في تعطيل التدقيق الجنائي لمجرّد معرفة مضمونه، فهو ينظر في كلّ السجلات والمستندات والقيود من جانب إحتمال تجاوزات وإساءة إستخدام القواعد المالية والمصرفية، وتنفيذ سياسات مشكوك في تكلفتها وآثارها على ميزانية مصرف لبنان، ويفضح الجهات المستفيدة وما إذا كان هناك تبييض أموال في المصرف خلال ذلك، وله أن يعود إلى سجلات مصرف لبنان والقيود الإلكترونية وإستعادتها وتظهيرها من جديد وكشف المخفيّ منها والملغيّ، وتسمية الأطراف المستفيدة أفراداً أو مصارف وشركات وقوى سياسية وغيرها. ولا شكّ أن الهندسات المالية واحدة من إجراءات سيتركّز عليها التدقيق الجنائي مع التحويلات المالية إلى الخارج والأهم تلك العائدة لقوى سياسية نافذة ومساهمي وأصحاب المصارف، والأرجح أن يطال لجنة الرقابة على المصارف والإنعطاف على المالية العامة وعلاقة مصرف لبنان بتمويل الدولة، لذلك ليس مستغرباً سيناريو إسقاط التدقيق الجنائي من قبل المنظومة للإنقلاب على مقدّمات الإصلاح المالي والإداري وكشف مخطط نهب المال العام ووضع اليد على مدّخرات الناس.

اذاً، جرى حصار عمل شركة الفاريز ومارسال، وإخفاء المستندات وعدم تسليمها لها بذريعة السرّية المصرفية، وهذا بحدّ ذاته تعطيل للنصوص القانونية والدستورية، ذلك أنّ دائرة التدقيق الجنائي يقتضيها "حقّ الوصول إلى المعلومات" الذي أقرّه المجلس النيابي بنصٍ واضح عام ٢٠١٧، الذي يتيح للحكومة وللجهات المعنيّة سنداً له، الطلب من المصرف المركزي بالمعلومات والوثائق المطلوبة، كما أنّ هذا الحق يندرج في المادة ١٩ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو ما إلتزم به لبنان في مقدّمة الدستور حيث أكّدت الفقرة (ي) على إلتزام لبنان بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إضافة لما تقدّم أكدت المادة ١٥١ من قانون النقد والتسليف، أسوةً بقانون السرّية المصرفية الصادر العام ١٩٥٦ على وجوب الإلتزام بالسرّية المصرفية أمام الجهات الخاصة أو العامة، إلا أنّ نفاذ عقد التدقيق الجنائي وجعله سارياً على المعلومات المطلوبة من المصرف المركزي للكشف عن الفاسدين، لا يتنافى إطلاقاً مع قانون السرّية المصرفية، ذلك أنّ الغاية القانونية من إعتماد السرّية المصرفية هي إجتذاب الأموال، لا إخفاء الشرعية على إحتجاز الأموال عن مستحقّيها، على إعتبار أنّ نطاق السرّية المصرفية يطال أسماء الزبائن وكلّ المؤسسات المشمولة بالقانون الصادر العام ١٩٥٦، وبالتالي إنّ إدراج المال العام موضوع التدقيق الجنائي في كنف السرّية يحتاج إلى نص قانوني صريح، سيّما وأنّ السرّية المصرفية لا تحمي الجرائم والمخالفات القانونية، والدليل هو ما ورد في أسبابه القانونية المُوجبة، والغاية منه السعي لجذب الرساميل الأجنبية إلى لبنان، وأنّ المنافع التي سيجنيها الإقتصاد ستعوّض عن الأضرار التي قد يلحقها هذا التشريع بخزينة الدولة.

على طريقتِها البشعة والمعتادة ضربت المنظومةُ السياسيةُ التدقيقَ الجنائي وعلى الطريقة اللبنانية ذاتها والتي اعتمدت منذ الطائف، وزّعت السلطة الأدوار فيما بينها كما تفعل كلّ مرةٍ حين تشعر بالخطر الذي يهدّد بقاءَها، ومرّةً جديدة تستخفّ بمصالح الناس وأموالهم، وتلجُم أيّ عمل إصلاحي ومؤسساتي، وتمنع أي محاولةٍ لإحداث تغيير أو محاسبة للفاسدين أو كشفٍ للمال العام المنهوب. ليس جديداً على سلطة الفساد، ونظام الريع الذي أرست دعائمَهُ السلطةُ الطائفيةُ الفاسدةُ نفسها والتي قوّضت إمكانية بناء دولة ومؤسسات وإقتصاد منتج دعامته الزراعة والصناعة، هذا الإنقضاض على محاولةٍ إصلاحيةٍ للكشف عن مكامن الفساد والخلل وكلّ المُسبّبات التي أوصلت إلى هذا الإنهيار الإقتصادي الحاصل على كافة المستويات الصحية والتعليمية والوظيفية والخدماتية والنقدية والمالية.

لا خلاص إلاّ بإحداث تغيير على صعيد السلطة السياسية، فهو الطريق الأسلم لولوج مسار إصلاحٍ جدّي سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً، لأنّ هذا الإنسداد الحاصل ومنع حركة تطوّر وبناء الوطن، ليس سوى نتيجة حتميّة لهذا الشكل من النظام السياسي الطائفي الزبائني الذي يستعظم قوّته وقدرته وبدور عصا السلطة لمنع أيّة محاسبة أو تغيير كمقدّمة لبناء وطن العدالة الاجتماعية والمساواة.