يديرون الانهيار ويتحايلون على الشعب

مع تواصل الإنزلاق إلى الانهيار الشامل، واستمرار صرخات الشعب أجواء انتفاضة، لم يبق مرجع حتى في المدى العالمي، وصولاً إلى البابا والفاتيكان، إلّا وعبّر عن قلقه إزاء ما أصاب لبنان من انهيار متمادي يطال الدولة والشعب اللبناني بكليته. ومع ذلك تستمر الطبقة السلطوية وأقطابها بالتشبّث بكراسيهم، دون امتلاكهم مشروع وكفاءة أو حتى إرادة، لمعالجة حقيقية لهذا الوضع الكارثي، الذي لم يسبق أن عاشه اللبنانيون. فلا يعالجونه ولا يتركون أمر معالجته لغيرهم. وهذا السلوك يؤكد سوء إدارتهم للوضع وعدم تحسّسهم بما حلّ ويحلّ بالشعب والبلاد. ورغم النقمة الشعبية العارمة التي تجلّت في انتفاضة 17 تشرين، بقيت مصالحهم الخاصة والشخصية هي أولوياتهم. ووصلت ذرائعهم وتلاعبهم في استخدام الميثاق والصيغة الطائفية، إلى الشلل والجوع المشتركة، وحتى الموت المشترك بدلا من العيش المشترك.

وتٌبيِّن التجربة وما طرأ من أحداث وتطوّرات، أن الترقيع والمسكّنات، مثل البطاقة التمويلية وغيرها، لا جدوى فعليّة منها. وهي للتلّهي عن الحل. ويجري استخدامها لشراء الوقت وتنفيس الاحتقان، ورشوة هزيلة في الانتخابات النيابية المقبلة. فلم تعد اساليبهم تنطلي على الناس، فيعرفون أن إقرارهم لقانون كابيتال كونترول مثلا، قد جرى بعد حوالي سنتين، كانت فرصة لتهريب وتحويل مليارات الدولارات المنهوبة إلى الخارج. وكذلك بالنسبة للوعود بالتحقيق الجنائي، فقد سقطت مصداقيتهم عند الشعب. فهم مستمرّون في طريق تدمير لبنان والتهويل على الشعب. وليس خافياً أن هذا ومن ضمنه تدمير مرفأ بيروت. هو من أهداف العدو الاسرائيلي، لجعل مرفأ حيفا هو الأساس في المنطقة، ومصادر دور لبنان كمركز مالي وسياحي وكوسيط تجاري مع السوق العربية، إضافة إلى إفشال التعدّد في لبنان. ومعلوم أن المخطط الاميركي الاسرائيلي هو نشر الفوضى في المنطقة وتفتيت بلدانها خصوصاً المحيطة باسرائيل، وإخضاع لبنان لمصلحة اسرائيل بترسيم الحدود البحرية والتطبيع. وهذا المخطط لا يستخدم في تآمره شكلاً واحداً عسكرياً فقط. كما لا تكون مواجهته بشكل واحد، أو بالاقتصار على الكلام ضد اميركا واسرائيل بل مواجهته في المواقع والمجالات التي ينفذ منها ليمارس دوره العدائي في الداخل. من النهج السياسي والاقتصادي والمالي للمنظومة الفاسدة، إلى نظامها الذي تشكّلت بنيته السياسية والاقتصادية في ظلّ السيطرة الاستعمارية، ليكون لبنان في وضع متناقض وضعيف، وقابل للتدخل والنفوذ الامبريالي، والخارجي عموماً.  فالتصدّي لأهداف هذه المخطط هو بمواجهة حالة الانهيار واسبابه وبرفض إذلال وتجويع الشعب وتدفيعه ثمن انهيار وأزمات صنعتها شبكات ومافيات السلطة والمال والاحتكار، واستغلال الخارج لدورها.

فنهج السلطة والتحلّل البنيوي للنظام، قد أوصلا لبنان إلى نفق مظلم ومصير مجهول. فالعتمة مستمرة، وكذلك مشكلة المياه .. والنقص فادح في الأدوية الطبية وإمكانية الاستشفاء، والارتفاع الجنوني لأسعار المود الغذائية اليومية. إضافة إلى البنزين والمازوت وعدم وجود وسائل نقل عامة كما في البلدان المتحضّرة، ومضاعفة فاتورة المولدات الشهرية. وقد ورد في تقرير أممي جديد، أن 30% من الأطفال ينامون وبطونهم خاوية. وأن 40% ضعفت قدرتهم على التركيز. وأن 77% من الأسر يعجزون عن شراء الغذاء الضروري. فلا يمكن لأي انسان طبيعي الاّ يغضب ويثور ضدّ هذه الطبقة السياسية ونظامها. 

 فشعبنا الذي قاوم الاحتلال الصهيوني وفرض عليه الانسحاب بدون قيد أو شرط، لا يمكن أن يقبل بتجويعه وإذلاله وقهره. وفي حين أن المقاومة تبقى ضرورة للبنان طالما أننا لسنا دولة وطنية متماسكة وقادرة على حماية الوطن، لكن دورها لا يقتصر على الصمت إزاء حماية الفساد والفاسدين وتجويع الشعب، وحرمانه الحياة الكريمة. فضرورة الوقوف مع الشعب وقضاياه، ومجابهة المخططات العدائية بتدمير لبنان، توازي أهمية وضرورة دور المقاومة. وهي حاجة أيضاً لتجاوز حدود المذهب والطائفة، واكتساب تعاطف أوسع جمهور لبناني لصالح دور المقاومة، وإفشال التحريض الرجعي ضدها.

إنّ تلاقي مئات ألوف اللبنانيين في الشوارع والساحات في انتفاضة 17 تشرين، شكّل عاملاً أساسياً جديداً في الحياة السياسية والعامة. وخلق مناخاً صاعداً في مواجهة الطبقة السلطوية ونظامها، التي رغم تبايناتها وخلافاتها، تقف صفاً واحداً ضدّ الحركة الشعبية وقضاياها وللهيمنة على الحركة النقابية بما فيها نقابات المهن الحرّة. وقد تجلّى هذا المناخ الجديد في النجاح الباهر لتكتّل "النقابة تنتفض" في انتخابات المرحلة الأولى للمهندسين، والتي سبقها الانتصار في رئاسة نقابة المحامين، وكذلك في مجالس طلاب الجامعة الاميركية والجامعة اليسوعية وغيرها.... وهذه النجاحات تؤكّد الأمل والثقة بدور الشعب وقدرته النضالية في صنع التغيير.