بعد 49 سنة على انفجار الحرب الأهلية

في 13 نيسان من كل سنة يردّد اللبنانيون شعار "تنذكر وما تنعاد". ومع أنّ الحرب الأهلية توقّفت مع اتفاق الطائف، إلا أنّ هذا التوقّف لم يُواكَب بمصالحةٍ شاملة مع الوطن والشعب. فلم يُبنَ السلم الأهلي، ولا جرى تحقيق بعض بنود تطرُق باب الإصلاح في الإتفاق، فبقيتْ أسباب الحرب كامنة في بنية النظام السياسي بطابعه الطائفي التحاصصي، وجوهره الطبقي.

فالأسباب والأزمات الاقتصادية والإجتماعية التي بدأ احتدامها أواسط ستينيات القرن الماضي، خصوصاً مع أزمة بنك أنترا 1966 وانعكاساتها الواسعة، هي التي دفعت الفئات الشعبية إلى التحرّك الواسع والإضرابات، من العمّال، إلى المعلّمين، إلى مزارعي التفاح والدخان، والطلاب والمستأجرين، إلخ.. وبدلاً من تجاوب السلطة في المعالجة وتلبية المطالب الملحّة، وتحقيق إصلاحات، لجأتْ إلى القمع الدمويّ والعنف ضد المعلّمين، وقتل ثلاثة من عمّال معمل غندور المضربين دفاعاً عن حقوقهم، وقتل ثلاثة أيضاً من مزارعي الدخّان في تظاهرتهم في النبطية عام 1973، وبعدها إغتيال القائد الشعبي والوطني معروف سعد – على رأس تظاهرة صيّادي الأسماك وفقراء صيدا (شباط 1975). والجدير ذكره، أنّ أسلوب العنف والقمع ضد التحرّكات الإجتماعية، ترافق مع تخاذل النظام وسلطته حيال اعتداءات إسرائيل، بدءًا من عدوانها السافر على مطار بيروت وتدمير 13 طائرة مدنية أواخر 1968، مروراً بتكرار إعتداءات الكوماندوس الصهيوني على القرى الحدودية، وصولاً إلى اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في منازلهم في بيروت عام 1973، عدا اعتداءات أخرى.
وفيما كشف القمع السلطوي تصادُم سياسة السلطة مع القضية الاجتماعية، فإنّ تخاذل السلطة إزاء اعتداءات إسرائيل كشف أزمة الوجه الوطني لهذا النظام، ومعه سقوط مقولة "لبنان قوي بضعفه". فتلاقت التحرّكات الشعبية المتصاعدة، إجتماعياً ووطنياً في وجه سياسات السلطة. وكان التحريض الطائفي النابع من طبيعة النظام الطائفي وتحاصصاته وانقساماته، بمثابة صاعق التفجير لهذه الحرب عام 1975، وما سبقها وما رافقها من ميليشيات وانقسامات عمودية وصراع دموي، وإلغاء للآخر. ولم يكن تمادي الدور الفلسطيني إلا نتيجة لهذه الأزمات والإنقسامات الداخلية.
وإذا ما كانت العوامل الداخلية هي السبب الأساسي للحرب، فإنّ للعامل الخارجي المتعلّق بمخطّط اتفاق كامب دايفيد، دوراً تحريضياً لتفجيرها، ودافعاً لإشعالها وإطالة أمدها. فلم يكن صدفة تصريح أنور السادات المنشور في جريدة النهار عام 1974، بأن "دماء كثيرة ستسيل في لبنان." كما يبيّن أيضاً جواب المبعوث الأميركي دين براون، على مخاوف الرئيس سليمان فرنجية من خسارة المسيحيين الحرب، أنّ البواخر الأميركية جاهزة لنقلهم إلى كندا.. وإذا لم يغِب هذا العامل الخارجي اليوم أيضاً، فإنه أكثر شراسةً وعدوانيةً ووحشيةً في حربه الصهيونية الأميركية على غزة وفلسطين ولبنان، لتصفية قضية فلسطين، وللسيطرة على المنطقة وثرواتها بما فيها لبنان. وإذا ما كان لبنان غير قادر على إنهاء دور العامل الخارجي، فمن الضروري مواجهته بتحصين الوضع الداخلي، خصوصاً بإزالة الأسباب الداخلية للحرب. ولأنّ الطبقة السلطوية لم تقُم بذلك، وقد أعادوا بناء الدولة على الأسس ذاتها، فإنّ وضع لبنان اليوم هو أكثر سوءاً من أواخر الستينيات والتمهيد للحرب. فالدولة في تَحلُّل، والوضع الإجتماعي في تدهور مريع، والوحدة الداخلية مختلّة، والإستمرار بمقولة لبنان قوي بضعفه، أوصلت لبنان إلى القاع. ولا وجود لعمل سلطوي منتظم ببقاء موقع رئاسة الجمهورية شاغراً.
بالطبع ليست الحرب الأهلية واستغلال الخارج لها أمراً ملازماً للبنان. فاستمرار أسبابها يشكّل مقتلاً للبنان. فالإصلاح الضروري هو اليوم والأمس وغداً، باستبدال سلطة دولة تمتلكها الطوائف حصصاً تُختزل بمصالح زعمائها، بإقامة دولة ديمقراطية علمانية تُحقّق وحدةً لبنانية داخلية، وعدالة إجتماعية، وتعزيز قدرة لبنان وحمايته من العدوان الخارجي والتفتّت الداخلي. بذلك يكون إخراج لبنان من دوّامة الانقسامات وتكرار الحروب الأهلية، وبسط سيادة الدولة. ومثل هذا التغيير يصنعه الشعب باستكمال وتعاظُم انتفاضة 17 تشرين. فلا يُكافَح الفساد بالفاسدين، ولا الطائفية بالطائفيين.

  • العدد رقم: 422
`


موريس نهرا