قلت لهم ... في صنعاء *

كانت بيروت 1982 قد وُلدتْ.. كانت بيروت ينتشرُ احتراقُها على كل شبه القارة العربية، وشبه القارة العربية كلها كانت تتنشّقُ احتراقَ بيروت، ثم تتثاءب!
كان لبنان لا يزال رماداً يتكدّس، ولم يكن يتوهّجُ رَمادُه، بعد...
وكان عربٌ يحتشدون "للقات" ** وللكلام في صنعاء: عرَبٌ مشرقيّون ومغربيون، كتَابٌ وشعراءُ ومثقّفون...
للتاريخ: كانت تتشكَّلُ على جباهِ العرب المحتشدين "للقات" وللكلام في صنعاء، سحاباتٌ رمادية تكادُ تقولُ "شيئاً" عن لبنان يشبهُ كلامَ "الرثاء"!
وحده جبيني كان لبنانيّاً... أي وحده كان صريحاً واضحاً وصَلداً... أي وحده كان رافضاً كلّ أشكال الرماد والضباب.. جبيني اللبناني كان وحده مقتنعاً بلونه الربيعي.

***
وقلتُ لهم في صنعاء، عن لبنان.
قلتُ لهم كيف سيخرجُ لبنانُ من احتراقه جسداً واحداً، قدماه جدرانٌ مخضوضران في عمق المرحلة، هذه المرحلة. وكتفاه جسران عظيمان بين ثورةٍ وثورة.
قلتُ لهم كيف سيدفع لبنان بحكايةِ طائرِ "الفينيق" من دائرةِ الوهم الأسطوري أو من عتمةِ المستحيل إلى بؤرةِ الضوءِ/ اليقين...
ولم يقولوا هم في "صراحة" إني ساذجٌ، أو أحمق، أو أبله، أو ما يُشبهُ ذلك.. لكن قالوها لي كلَّها بلطفٍ مضغوطٍ جداً.. قالوها لي هكذا: "متفائل". فهكذا كان يومها معنى "متفائل" بالقياس إلى مصيرِ لبنانَ عندهم، في صنعاء، وفي كلِّ شبه القارة العربية.. كان على لبنانَ ـ عندهم ـ أن يُنسى إلى الأبد، أنه كان شعباً وله وطنٌ وأرضٌ وتاريخ.. وكان على لبنانَ ـ عندهم ـ منذ الاجتياح الإسرائيلي لأرضِه وعاصمتِه أن يتعوَّدَ الإقامة إلى الأبد في ذاكرةٍ جديدةٍ تبنيها له "إسرائيل" بهندسةٍ أميركية، وبأدواتٍ فاشيّةٍ.
***
قلتُ لهم في صنعاءَ عن لبنان ، ولم أكن "متفائلاً ".. أي لم يكن مرجعي لا "التفاؤل" الساذج، ولا التفاؤل التاريخي العلْمي.. كان مرجعي الأوحد تلك الرصاصاتُ الثلاث التي أفرغَها فتىً وطنيٌّ مجهولٌ من شعبي في ثلاثةِ رؤوسٍ من جنودِ الاحتلالِ الصهيوني كانوا يجلسونَ مطمئنّين في مقهى الـ "ويمبي" في شارع الحمرا، وهم يتلمّظونَ بنشوةِ "الانتصار" على بيروت.. كان مرجعي الأوحد ثلاثُ رصاصاتٍ أعلن بها شعبُنا منذ اجتياح بيروتَ الغادر:
أنه، أولاً، قد رسمَ نهجَه الحاسمَ الصارمَ لتطهيرِ جسدِ الوطن كلِّه من دنسِ الاحتلالِ الصهيوني كلِّه.
وأنه، ثانياً، قد جَعَلَ الرصاصاتِ الثلاثَ الأولى تلك رمزاً للانطلاقِ في تنفيذِ النّهجِ الحاسم ِ الصارم.
وإنه، ثالثاً، قد أخذَ على نفسِه عهداً أن لا يدَعَ ذراعيْه ترتاحان من ممارسةِ هذا النهجِ حتى يرفعَ العدوُّ المحتلُّ يديْه استسلاماً ويخرجَ من أرضنا مدحوراً ، مُثخناً حتى لُباب العظام ..

***
قلتُ لهم في صنعاءَ، عن لبنان.
كان ذلكَ ولم تكنِ الرصاصاتُ الثلاثُ الأولى قد أخصبتْ وتناسلَتْ أشكالاً وأنواعاً من الإخصابِ والأنسالِ لا حَصرَ ولا نهايةَ لها...
كان ذلكَ ولم تكنْ جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية قد رفَعَتْ قامتَها العاليةَ في الجنوب، وأخذتْ تنهمِرُ ناراً وصواعِقَ تسحقُ آلةَ الحربِ الصهيونية، وتمحَقُ جنودَ جيشِ العدو، وتنشُرُ الاهتزازَ في مفاصِلِ الجهازِ السياسيّ الصهيوني وتضعُ مشاريعَ المؤامرةِ الصهيونية - الكتائبيةِ بين حجريْ رحى طاحنة.
كان ذلك، ولم تكن انتفاضةُ بيروت الجديدة قد أعادتْ صورةَ بيروت 1982 إلى ذاكرةِ العالَم، كلِّ العالَم، لتشهدَ من جديد أنّ بيروتَ "نجمةٌ" و"خيمةٌ" ستبقى إلى الأبد.
كان ذلك، ولم تكُنْ حروبُ الجبلِ والضاحيةِ قد ثقبتْ سدَّ الحصارِ "الثلاثيِّ " الهمجيِّ من كلِّ جهاتِه، وانهارَ حتى آخرِ حجر.
كانَ ذلكَ ، ولم يكنِ "الاتّفاقُ" / الجثّةُ قد نعاهُ أهلُهُ وسطَ حَسَراتِ الذين كان لهمُ العمادُ والسّنَدُ "إلى الأبد". لقد سقطَ "الاتّفاقُ" وانحطمَ على قدميْ شعبِنا الأُعجوبة: شعبِنا الذي قال: "لا" يوم 17 أيار 1983.. وظلَّتْ "لا" تنمو وتكبرُ وتخصبُ في يدِ شعبنا وضميرِهِ حتى صارَ "قدَراً" لا مفرّ منه... وحتى صارَ يومُ 5 آذار 1984 مفصلَ هذا "القدَر" المحتوم.

***
شعبُنا الأعجوبة.
كلُّ شعبٍ أعجوبة.. كلُّ شعبٍ قادرٍ أن يجترحَ الأعجوبةَ حين يقرِّرَ أن يرفض .. وقد قرَّرَ شعبُنا الرفضَ منذ الرصاصاتِ الثلاث في شارع الحمرا...
***
قلتُ لهم في صنعاء عن لبنان.
وأقولُ لهم الآن: " نعم " إني متفائل، ولستُ ساذجاً، ولا أحمق، ولا ما يُشبهُ ذلك.. إني متفائلٌ بقدَرِما تضيئني الثقةُ بشعبيَ العظيم.

* مقالة للمفكر الشهيد حسين مروة نُشرَتْ في جريدة "النداء" بتاريخ 3 آب في العام 1984 أثناء وجوده في اليمن الجنوبي (عدن)

  • العدد رقم: 365
`


حسين مروة