سحرُ بونتيكورفو في معركة الجزائر


غيلو بونتيكورفو هو مخرجٌ سينمائيٌّ إيطاليٌّ راحل وهو يُعدُّ من أعظمِ المخرجين في تاريخ السّينما الأوروبية وأكثرهم تسيّساً. فالبرّغم من أنّ أفلامه اللاتجارية كانت قليلة، تمكّنَ بونتيكورفو بنجاح من طبع بصمته في الأجيال القادمة، لاسيّما في فيلمه الشّهير "معركة الجزائر" الّذي، واقتباساً عن إدوارد سعيد، شكّلَ مستوى سياسيّاً وجماليّاً لم يُعادَل على الإطلاق.

معركةُ الجزائر

أُنتج الفيلمُ عام ١٩٦٦، أي بعدَ أربع سنواتٍ من تحرير الجزائر. وتتمحورُ أحداثُه حول عمل جبهة التحرير الوطني الجزائرية في أواخرِ خمسينيّات القرن الماضي وتحديداً في العام ١٩٥٧، في العاصمة الجزائرية الجزائر، في أحياءِ القصبة بشكلٍ خاص. وقد عُرفَ هذا العملُ تاريخيّاً باسمِ معركة الجزائر.وبالرّغم من أنَّ الفيلمَ يوحي بالتّوثيق الحقيقيّ وهو تماماً ما أراده المخرجُ من خلالِ اللّونينِ الأبيضِ والأسود والأحداث والشخصيات الواقعيّة ومشاركة أحدِ أهم قياديّي الجبهة "سعدي ياسف" ممثّلًا دوره، كما أرادَ كذلك تواجدَ حسِّ الحقيقة أو ما يسمّيهِ ب '' ديكتاتورية الحقيقة'' ولو بأيّ ثمنٍ ، إلّا أنَّ كلَّ مشاهد الفيلم مصوّرةٌ سينمائيّاُ أو بالأصح أعيدَ تمثلُيها.


رحلةُ البحثِ عن علي لابوانت

المشهدُ الأوّل من الفيلم، وهو أيضاُ مشهدُه الأخير، يبدأُ بإظهار تعذيب جنود الاستعمار لأحدِ الثوّار الجزائريين - وهو أسلوبٌ قديمٌ برع فيه الفرنسيّون بالذّات - وقد كانتِ الغايةُ من التّعذيب هي الحصولُ على معلوماتٍ حول مكان تواجد علي لابوانت. ثمّ يعود بنا الفيلمُ إلى بدايات الأحداث، فمن هو علي لابوانت؟ هو أحدُ أعلامِ الثّورة الجزائرية؛ عاملٌ فقيرْ وملاكمٌ سابقٌ ومقاتلٌ وطني، بسيطٌ وصادق وشرسٌ في الواقع كما في الفيلم، ومثّلَ دورَه ابراهيم حجاج. وإنّه في الحقيقة ليوجد تشابهٌ كبيرٌ بين شخصية الاثنين. ويُعتبرُ هذا من إحدى أهمِّ المميزات العظيمة والخطيرة لبونتيكورفو، حيثُ استحدثَ في عصره إشراكَ أناسٍ عاديين من البيئة المحليّة لوقوعِ أحداث أفلامه الواقعية، وهم من الّذين لم يسبق لهم التمثيل من قبل. كما لم تعرف أفلامُه شخصيّةً أساسية واحدة فريدة، بل شخصيّةً جماعيّة أي جوقة رئيسية.

دخَلَ لابوانت العملَ الجبهوي عام ١٩٥٤، التَاريخ عينه الّذي يعودُ إليه الفيلمُ في مشهده الأول، بوساطة من عُمر الصغير، على يدِ د. حعفر، أي سعدي ياسف ممثّلًا دورَه الحقيقي في المقاومة كأحدِ أفراد الجوقةِ الرئيسيّة.

تتالى، أحداثُ الفيلمِ في خطّين أساسيّين: فنلاحظُ أوّلًا التّشديدَ على أهميّةِ التّنظيم والعمل السري وتطهيرِ الجبهة داخليّاُ مع محاولة إعادةِ القيم الجزائرية والإسلامية لعامّةِ الشّعب كردّة فعلٍ على وظيفة الاستعمار الدائمة المتمثّلةِ بسلب ثقافةِ الشّعوب وسلخهم عن قيمهم. ويظهرُ لابوانت كأحدِ الأشخاص الرئيسيين الّذين أنيطَت بهم هذ المهمّة. ونلاحظُ ثانياً تصاعدَ حدّة العمليات العسكرية ضدَّ المستعمر. ولا بدّ من الإشارةِ هنا إلى التّجربة الحقيقيّة للمخرج، حيثُ قادَ مجموعةً ماركسيّة لمقاومة الفاشية في إيطاليا واستقى من عمليّاتٍ نفذّها في المقاومة تجربةً وخبرةً ووحيًا لتركيب بعضِ المشاهد.

طيلة الفيلم، يُلاحقُ الفرنسيّون القيادةَ العامّة للجّبهةِ المعروفة أيضاً برأس الدودّة، حتّى تنتهي الرّحلةُ بالاستشهاد البطوليّ لِلابوانت مع ثلاثِ شخصيّاتٍ أُخرى منهم الطّفل عمر وذلك بعد أن رفضوا تسليمَ أنفسهم. وقد بقيت هذه النهايةُ البطوليّةُ مطبوعةً بالذّاكرة الجماعيّة للشّعب الجزائري حتّى يومنا هذا.


التّفجيراتُ والنّساء

يُظهرُ الفيلمُ كيف يقومُ الفرنسيّون، وبعد أن ييأسوا من كلِّ الاحتياطات الأمنيّة الّتي اتّخذوها لردعِ عمليّات المقاومة، بتفجيرِ حيٍّ من أحياءِ القصبة في مشهدٍ تراجيديّ عظيم مع موسيقى أنيو موريكوني البسيطة والرّائعة والتي أعطَتِ الفيلمَ حسّاًةتراجيديّاً وبناءً موسيقيّاً يتناسبُ مع الذوق الشرقي بالرّغم من كونه غربيّاً، خاصّةً مع الجماليّة الّتي تضيفها موسيقى بابا سالم الفولكلورية الجزائزيّة في لقطةٍ أُخرى.ويقودُ هذا التفجيرُ الجبهةَ إلى مرحلةٍ أعلى حيث تردّ عليهِ بتفجيراتٍ عديدةٍ أوّلها.. ثلاث، وقد استهدفت بدورها أماكنَ تجمّع مدنيّينَ فرنسيين.وتنفذُ هذه التّفجيرات الثّلاث ثلاثةُ نساءٍ هم في الواقع التاريخيّ زهرة ظريف وسامية لخضري وحسيبة بن بوعلي. وقد أثّرنَ على سيرِ المعركةِ ووتيرتها، تماماً كالدّور الّذي أدّتهُ المرأةُ في الحربِ ومواجهة الاستعمارِ في بلادنا من فلسطينَ إلى لبنانَ والجزائر، إلخ.

هذا الدّوُر الرئيسي للمرأة الّذي يحاولُ البعضُ طمسَه اليوم، ويعلّقُ بونتيكورفو على هذه المسألةِ بالذّات قائلًا:بالإضافةِ إلى الحقيقةِ التاريخيّة لدور النّساءِ في المعركة، فإنَّ إصراري على إبراز هذا الدّور يعودُ بشكلٍ أساسيًّ لوضعٍ إجتماعي كانَ ينمو بشكلٍ سريع في الجزائر بعد الثّورة ألا وهو تهميشُ دورِ المرأة ومحاولةِ محوهِ من الذّاكرة الشعبيّة يوماُ بعد يوم. وذلكَ ما دفعَني تحديداً لإنهاءِ الفيلم بصورةٍ رمزيّة لامرأة. .وبالعودةِ إلى التّفجيرات، فقد أضيفَ إليها عاملُ الإضراب العام ممّا استدعى تدخّلَ الفرقةِ العاشرة للمظلّات بقيادة ماسو أو "ماثيو" بحسب الفيلم، وهو الممثّلُ المحترفُ الوحيدُ فيه. وسيقودُ عملُ هذه الفرقة الاستخباراتي الأمني، وبأقلَّ قدرٍ العسكري كما يظهرُ في الفيلم، المعركةَ، لا الحربَ، ببراعةٍ إلى نهايتها.
العاملُ السياسيّ

لا ينسى المخرجُ الماركسيّ بطبيعةِ الحال العاملَ السياسي في معركةِ الجزائر. فمشاهدُ الفيلم مكثفّةٌ بالسّياسة وكمثالٍ أوّل في هذا الصّدد: إظهارُ المسألة الطبقيّةِ بشكلٍ مباشر نظراُ لأهمّيتها، بحيثُ يصوّرُ الواقعَ الققيرَ المحرومَ لأحياءِ الجزائريين يقابلُهُ التّرفُ المفرط في المركزِ الأوروبي في وسط المدينة. ولا تظهرُ الهوّةُ الطبقيّة الشّاسعة بين الأوروبي والجزائري فقط في المظاهرِ إنّما في مهنِ شخصيّات الجبهة وأعمالهم الأساسيّة إذ ينتَمون إلى الطّبقتين العاملة والفقيرة. وبهذا يظهرُ التّرابطُ الموضوعي الضروري بين المسألة الوطنية واستغلال الشّعوب الطبقي وجعلِ بلدانهم أسواقاً.وفي السّياق نفسه، يبرزُ العربيُّ بن مهدي كشخصيّة سياسية فذّةٍ باصراره المستمر على أنّ الوزنَ الحقيقيَّ للثّورة يأتي بعد توحيد الشّعب الجزائري بوزنٍ سياسيٍّ، وبِلفت نظر الرّأي العام العالمي إلى المسألةِ الجزائرية وتوضيح نفاقِ الامم المتحدة السياسي.ويذكّرنا في نقاشٍ بينه وبين علي لابوانت، بما قاله زعيم الثّورة الكوبية كاسترو بعد النّصر؛ أنَّ الثّورةَ بدأت للتّو، إذ ينبّه لابوانت أن الصّعوبة الحقيقيّةَ والعمل الحقيقيّ للشعب يبدآنِ بعدَ انتصارِ الثّورة.


البروباغندا الغربيّة


شكّلَ فيلمُ معركةِ الجزائر مُدخلًا للفهم التاريخيّ الحقيقيّ لحرب التّحرير الجزائرية وهو كذلك بالنّسبة لأغلبِ الجمهورِ الأوروبي الذي يلامسُ لأوّل مرّةً الوجهة الجزائرية بفيلم أوروبي مضادٍّ للاستعمار - المؤرخ هيو روبرتس.فنظرًا لتأثيرِ تحفةِ بونتيكورفو على الرّأي العام الأوروبيّ الّذي ظهر من خلال تأييدهم الواضح للشّعب الجزائري وبسبب تصويرِ الاستقلال في المشهد الأخير كنتيجةٍ لتراكمِ النّضال، لم يكُن من المستغرب رؤيةُ ردّةِ الفعل الغربيّة تجاهه حيث مُنع عرضُه في فرنسا حتى العام ١٩٧١.

إنّ بونتيكورفو يظهرُ وبعبقريّةٍ تناقضاً خاصّاً بتلكَ المرحلةِ التاريخيّة إذ إنّ العديد من الأوروبيّين والنٌّخب العسكريّة نفسها (الكولونيل ماثيو) الّذين قاوموا للتحرّر من الوجود النازي في فرنسا بأسلوبٍ شبيهٍ لكلّ مقاومات العالم، يحاربون، لسخرية الأقدار، في فييتنام أو الجزائر لقمع الحركاتِ التحرّرية. فهذا التناقض خاصٌّ بالإمبريالية الغربية وشعوبها.

من الجهّة الأميركيّة، وفي مقابلةٍ مع ريتشارد كلارك وهو منسّقٌ سابقٌ للأمن القومي الأميركي ومحاربة الارهاب عام ٢٠٠٤، يصفُ هذا الأخيرُ الفيلمَ بالإرهابي ويصرّحُ أنّ الفيلم ليس فقط المفضّل لمنظّماتٍ يساريةٍ يصفها بالإرهابية ( كبلاك بانترس مثلًا)، إنّما لن يستغربَ أيضاً إذا وجده المفضّلَ لمنظمّاتِ التطرّف الإسلاميّ في هذا القرن. وهنا من الضروريّ الإشارةُ إلى أنَّ فيلم معركةَ الجزائر قد عُرض في البتتاغون الأميركي عام 2004 في عرضٍ خاص للقوّات الخاصّة المشاركةِ في احتلال العراق وقمع المقاومة والتمردّات.

خاتمةُ

دروسٌ كثيرةٌ نتعلّمُها من مشاهدة هذه التّحفة الفنيّة عن واقعٍ تاريخيّ لا يزالُ حاضراً حتّى اليوم في حقّ الشّعوب بتقريرِ مصيرها وفي تحرّرها من التبعية. وفي العام١٩٩٢، أي بعد ٢٧ سنة من إصدارِ الفيلم، يعودُ بونتيكورفو إلى الجزائر ليوثّقَ كيفيّة تطوّر الوضع السياسيّ والاجتماعي والاقتصادي في البلاد منذ الاستقلال. وستشكّلُ هذه العودةُ موضوعَ مقالتنا اللّاحقة.