من مفكِّرتي، ذاكرة النَّاس بين الماضي والحاضر، لقاسم سمحات سيرة جيلٍ يخرج الى ماضيه الجميل...


"من مفكِّرتي، ذاكرة الناس بين الماضي والحاضر" كتابٌ صدر مؤخَّراً للعميد المتقاعد، والأستاذ الجامعي قاسم سمحات. يتضمَّن الكتاب سبعة وثلاثين نصَّاً كتبها سبعة وثلاثون كاتباً تحت عنوان "من مفكِّرتي". هؤلاء الكتِّاب هم، كما يقول سمحات، عيِّنة تمثِّل نخبةً من مثقَّفي الوطن يتنوَّعون بين رجال دين وتربية وتعليم وأساتذة جامعات، ومغتربين، وموظفين، وأدباء، ومؤرّخين، وضباط متقاعدين، ومهندسين...، ليس بينهم سوى ثلاث نساء، والباقي رجال.

ما يجمع بين هؤلاء الكتَّاب الذين عاد كلٌّ منهم الى محطَّة مهمَّة من محطَّات حياته، واسترجعها، هو أنَّهم ينتمون الى جيلٍ، من أبناء هذا الوطن الجميل، عاش في النصف الثاني من القرن الماضي، وهو زمن يكاد الجميع يتفقون على وصفه ب “الزمن الجميل"، أو” زمن المعاناة / النضال الجميل"، ما يجعلنا نرى أن هذا الجيل، عندما يعود الى ذاكرته، يعود الى ذاكرة الوطن في سعيه الى بناء دولته، بعد أن نال استقلاله، وواجه مشكلات هذا البناء، في زمن "النكبة" و"النكسة" التي لم تلبث أن تلتها.

الملاحظ أنَّ ما يجمع بين هؤلاء المثقفين، أيضاً، هو سعيهم، انطلاقاً من واقع "الفقر والعوز" الى التحقُّق، و "حفرهم في الصخر "، من أجل ذلك، وتحقيق ذواتهم على المستوى الشخصي، وإخفاقهم في تحقيق أحلامهم على المستويين: الوطني والقومي، فالخيبات على هذين المستويين لا تزال تتوالى، والعجز لا ينفكُّ يتراكم؛ فكان الخروج من عالم الخيبات والعجز / الحاضر الى عالم الأحلام والنضال من أجل تحقيقها / الماضي، وهو الخروج الذي يجعل العيش في عالم " الخراب " محتملاً.

تتنوَّع هذه النصوص بين ترجمة حياة، ولقطات لحظات دالّة من الحياة، وحكايات قصيرة، ومذكِّرات، وطرائف، ونصوص تاريخية متنوِّعة، وسير ذاتية أدبيَّة...، ونصوص شعرية تأتي في سياق بعض الكتابات.
هذا التنوُّع، على مستويي النوع الأدبي والتجربة الشخصية المرويَّة بلغة من عاشها، يجعل نصوص هذا الكتاب نوعاً كتابيَّاً جديداً، قراءته ممتعة ومفيدة في اَن، فعلاوة على الوظيفة التي أشرنا اليها اَنفاً، وهي الخروج الى عالم وصفه بعضهم ب "ذروة الزمن الوطني الجميل"، تقدّم هذه النصوص معرفة بالأنا من نحوٍ أوَّل، ومعرفة متنوّعة، من نحوٍ ثانٍ، إضافة الى كونها وثائق تدوِّن هذه المعرفة على مستوييها.

يلاحظ، على مستوى المعرفة المقدَّمة ب “الأنا " تميُّز هذه " الأنا "، الاَتية، في الغالب، من قرىً فقيرة الى قرىً أخرى للتعلُّم، ثم الى بيروت أو الى مدنٍ غربيَّة لإكمال التعلُّم. وهي " أنا " متحدِّرة من أسرٍ عائلها فلاَّح أو عامل، ساعية الى تغيير واقعها من طريق تحصيل العلم والتوظُّف، منتمية الى حركات سياسية تعمل من أجل تعويض فقد الوطن: فلسطين، والفقد في الوطن: بناء الدولة القادرة العادلة، وقد يكون في بعض عناوين النصوص ما يدل على ذلك. ومن هذه العناوين: "مناضل من الزمن الجميل"، و "سيرة مثقف عضوي"، و "رغم القهر والحرمان نعمل"، و "بين اقطاعية أبي سيمون وعصامية مارون كانت الانطلاقة”، و" اليتم والفقر يصنعان رجلاً"، "سيرة مثقف عصامي"...

أمَّا المعرفة المتنوِّعة، فالمتوافر منها، في هذا الكتاب، كثير، ونشير، هنا، الى شيء منها على سبيل المثال. ففي تاريخ الأسر نعلم أنَّ اَل عسيران يعودون في نسبهم الى حبيب بن مظاهر الأسدي، وفي تاريخ الطوائف نعلم أنَّ الموارنة عرب أقحاح، وأن قرية كونين الشيعيَّة كان يسكنها مسيحيون، وفي التاريخ التربوي نتعرّف الى مدرسة دينية، والى تأسيس المدرسة الجعفرية في صور، والى إضراب المعلمين سنة ١٩٦٨، وصرف قادتهم، واضطهاد مدرِّسي المدارس الخاصة، فالعقد الرسمي يحدِّد أجرة الشهر ب٣٠٠ ليرة، والمدرّس يقبض فعليَّاً ١٥٠ ليرة، وعن أشهر التدريس فحسب، وليس عن السنة كاملة. وفي تاريخ القضاء نتعرّف الى قاضٍ لم يقبل تسوية سياسية جرت بين رئيسي جمهورية هما ديغول وشهاب، وفي التاريخ السياسي نتعرّف الى الحركات السياسية التي كانت ناشطة في ذلك الزمن، والى برامجها، ونضال المنتمين إليها، وبعض المفارقات، ومنها أنَّ المناضل الذي أمضى زهرة شبابه في النضال، يعتقله... من ناضل من أجلهم، وهو عائد من السفر ...، كما نتعرّف الى تأسيس الأحزاب اللبنانية في صور وإلى من أسسها، وفي هذا الشأن نقرأ طرائف، مثل طرفة تدبيج أهل عيناثا عريضة للأمم المتحدة في شأن الصراع العربي - الاسرائيلي ، كما نقرأ وثائق تاريخية عن انتفاضة بنت جبيل سنة ١٩٣٦، واقتحام المتظاهرين السجن وإخراج المساجين وسقوط الشهداء، ونصوصاً شعرية غنَّت هذه الأحداث، وعن هرب الملك ادريس السنوسي من الجيش البريطاني، ومروره بعيناثا ومساعدة أهلها له، ومعرفته عين الجوزة، ونتعرّف الى ثنائية انتصار إذاعات العرب/ هزيمة جيوش العرب في حرب الخامس من حزيران، والى روح المقاومة الثاوية لدى الشعب، وإلى إحساسه بالعجز، فيتعلَّق بالحلم، وهو أن تغطي قبَّة حديدية سماء فلسطين، فلا يعود التفوُّق الجوِّي الاسرائيلي فاعلا. وفي التاريخ الثقافي نعلم أنَّ سرايا بنت جبيل، والتي غدت سجناً إبَّان الاحتلال الاسرائيلي، تحوَّلت في زمن التحرير الى مركز مطالعة وتنشيط ثقافي، كما نقرأ أمثالاً شعبية وشعراً شعبياً ودلعونيات، ونتعرّف الى المجالس العاملية، في دارة السيد عبد الحسين شرف الدين. وفي التاريخ الفني نعرف أنَّ الشاعر، في مسرح فاروق، كان هو من يقدِّم الفاصل بين فقرتين بإلقاء نصوص من شعره، ونعرف أنَّ دقَّاق المجوز، في تلك الأيام، كان مثله مثل أشهر المطربين في هذه الأيام؛ فالعروس تشترط على عريسها أن يحييه دقَّاق المجوز أبو علي الكونيني. ونعرف في التاريخ الاقتصادي تأسيس شركة الريجي واحتكارها، والظلم الواقع في توزيع رخص زراعة التبغ وتحديد الأسعار، وفي التاريخ العمراني نعرف ما حدث لإعمار ما هدّمه زلزال ١٩٥٦. والحديث المطوَّل كان عن كلية التربية في الجامعة اللبنانية، التي كانت مركز نشاط سياسي وطني قومي يسعى إلى التغيير، ونشاط تربوي وثقافي...، وكانت تُعاش فيها حياة، يصدق عليها وصف من عاش تلك الحياة، فقال: " سنوات كلية التربية أجمل وأبهى وأسمى سنوات العمر ".

يبدو أنَّ د.قاسم سمحات بذل أقصى جهده في إعداد هذا الكتاب، والواضح أنَّه انطلق، في وضع هذا المشروع الثقافي المتميز، من إحساسه بالحاجة إلى مثل هذه الواحة في صحراء عيشنا الراهن، فاتصل بأبناء جيله، وحثّهم، ولم ينفك عن ذلك، وجمع، وحرَّر، وقدَّم، وعرَّف، وخلص الى نتائج ركَّزها في المقدمة والخاتمة، فقدَّم للمكتبة العربية عملاً يُعتدُّ به على مستويات أشرنا إليها في هذا المقال الذي اقتضى المقام أن يكون موجزاً، وأن لا يتضمَّن أسماءً، لأن الأسماء كثيرة، وكلٌّ منها جدير بالتقدير، وكانت الخشية من أن نذكر بعضاً منها، ولا نذكر بعضاً اَخر، فالمعذرة منهم جميعاً، والشكر لهم، ولمن أتاح الفرصة لكتابة ماضي النضال الجميل قصصاً جعلته أكثر جمالاً وفيئاً يمكن اللجوء إليه في القيظ الذي نعيشه.