الامبريالية والتبادل البيئي غير العادل

ما هو القاسم المشترك بين أزمة الإحلال الطبقي العمراني (التغيير العمراني المسؤول عن تهجير طبقة في منطقة ما، واستبدالها بطبقة أخرى) في لبنان، تفشّي السرطان في الفلوجة، وتدمير أحد الأحياء في واحة قابس التونسية -ويسمى أيضًا "الفلوجة"- بسبب مخلّفات الفوسفات؟ لا نحتاج إلى أي تحليل لكي نفهم أن الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية الحالية - أي الرأسمالية بحد ذاتها- تلحق أضرارًا جسيمة بشعوب بلاد الشام وبيئتها.

أقدّم هنا إطارًا نظريّاً لتفسير أزمات المنطقة التي تمسّ بالبيئة، والتي تشرح العلاقة بين الإمبريالية والأزمة البيئية في العالم الثالث - أو لاستخدام اللغة التقنية الدقيقة- الأطراف. سوف أمضي على النحو الآتي: أشرح أولاً الإطار المفاهيمي الذي أستخدمه لتفسير الإمبريالية، ولماذا أعتقد بأنه يلقي الضوء على فعل مقاومة الإمبريالية. أشرح بعد ذلك توسيع هذا الإطار ليشمل الضرر البيئي - وهو إضافة حديثة. ثم أناقش كيف يؤثّر ذلك على المنطقة، مع بعض الأمثلة التوضيحية.
أبدأ بشرح الإطار النظري الذي أعتبره الأكثر إقناعاً لفهم الإمبريالية، اعتماداً على فكرة المفكّر سمير أمين عن المركز مقابل الأطراف. بالنسبة لأمين، فإن المركز، من خلال مجموعة كبيرة ومتنوعة من الآليات - كالتراكم الأولي، وتجارة الرقيق، والتبادل غير المتكافئ في الآونة الأخيرة – يستطيع أن يحصل على ثروة أكثر من الثروة التي ينتج بنفسه. بعبارة أخرى، نعلم من ماركس بأن العمل هو مصدر قيم الاستخدام وقيم التبادل. ونحن لا نقبل السردية الإمبريالية القائلة بأن العمل المنتج في الأطراف أقلّ إنتاجية من عمل المركز، كما لو أن الأطراف تحتاج ببساطة إلى "اللحاق" بالمركز، وهي رواية خيالية يتقاسمها أيضًا معظم الماركسيين الغربيين. وبالتالي، فحتى لو رأينا أن جميع سكان العالم ينتجون كتلة كبيرة من قيمة الاستخدام، فإننا نعلم جيدًا بأن الرأسمالية هي نظام تتراكم فيه الثروة بصورة غير متساوية. وهي تتراكم في المركز أكثر بكثير مما هي عليه في الأطراف. ونظراً لأن كلّاً من الثروة والاستهلاك يتركّزان في المركز، فإن المركز، وبخاصة أثرياؤه، يقلّل من قيمة عمل الأطراف. ونظراً لأن المركز قادرٌ على مراكمة المزيد من رأس المال، فإنه يشتري المزيد من السلع المنتجة في العالم. وهذا ما يجعل الأطراف فقيرة. فهي -من المفترض أنها- لا تستطيع أن تتحمّل عبء تأمين المستشفيات، البيئة النظيفة، شبكات المياه الجيدة، والمنتجات الحرفية المصنوعة من شهوبها، والتي تذهب كلّها إلى أيدي شعوب المركز ودوله.
وقد كانت الآلية الأساسية لذلك، والتي ركز عليها أمين، التبادل غير المتكافئ. ما قصده هو أن نظام الأسعار سيضمن أن السلعة التي تتطلب ساعة واحدة من العمل في المركز، قد تَستبدل سلعة تتطلب 10 ساعات من العمل في الأطراف. وهذا يعني أيضًا أن المركز كان يستهلك أكثر من نصيبه العادل من المساحة البيئية في العالم، لأن العمل يشمل أيضاً العمل مع المواد، وتحويلها إلى سلع.
لكن ما هي علاقة الإمبريالية بهذه العملية؟
تلعب الإمبريالية دوراً من خلال نظام الأسعار. الأسعار، كما ناقشت سابقًا، ليست طبيعية أبداً. ولكن تمّ خلق مصطلح "السعر الطبيعي" لأغراض سياسية. ما يبدو لنا أنه "سعر طبيعي" هو شكل من أشكال الاستغلال الذي تمّ التطبيع معه على أنه "موضوعي". يسمح السعر بإعادة إنتاج البنية المادية بأكملها وتوزيع الإنتاج والاستهلاك في العالم بأسره. السعر هو الوسيلة التي تتراكم عبرها استحقاقات الثروة في المركز وليس في الأطراف. والسعر له آثار خطيرة وبالأخص على بلدان الأطراف.
في الماضي، كان نظام التبادل غير المتكافئ هذا يعتمد إلى حد كبير على السلع الزراعية مقابل السلع المصنعة. كان المركز، بعد التراجع أو وقف الصناعة (deindustrialization) في الأطراف، هو منطقة التصنيع. بينما كان المحيط منطقة الزراعة، باستثناء الحبوب. من خلال العنف والاستعمار، تمّ الإبقاء على أسعار السلع الزراعية منخفضة مقارنة بالمصنوعات.
ثم شهدت الستينيات والسبعينيات تحولّاً كبيراً في النظام العالمي: جاءت المصنوعات مرة أخرى إلى الجنوب. في جزء كبير منه، ابتداءً من السبعينيات، حدث هذا من خلال مفهوم الاستثمار في الدول "النامية" (off-shoring)، أي في المناطق الخارجية حيث يمكن القيام بالكثير من الصناعات التحويلية. وهكذا ذهبت معظم الصناعات الملوِّثة إلى الجنوب أو الأطراف.
في الوقت نفسه، زاد استهلاك المركز، بينما أخذت الفوارق الدولية في الاتّساع. وبالتالي، فإن ثروة المركز أخذت تنمو على نطاق واسع أسرع من ثروة الأطراف، فازداد عدم المساواة بين الدول.
من الناحية البيئية، هذا يعني أن بلدان المركز تستحوذ على المزيد والمزيد من المساحة البيئية في العالم. هذا هو أصل ما يسمّى الأزمة البيئية. ومع ذلك، فقد وصل الآن إلى بُعد أوسع وأكثر خطورة. لقد تبيّن أن "المساحة" التي كان المركز يستهلكها ليست مساحة مادية فقط، أو ليست مجرد مساحة "في الوقت الحالي". هي أيضاً مساحة في الزمن: لقد كان المركز للمائتي عام الماضية يستهلك المستقبل.
كان سعر "التنمية" و"الاستهلاك" للمركز وتراكم الثروات، يتمثّل في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على نطاق واسع. وقد دمّرت التكاليف البيئية لتلك الانبعاثات الأطراف على نطاق أوسع. البصرة، على سبيل المثال، ستكون غير صالحة للسكن إذا استمرّت درجات الحرارة في النمو. كما ستشهد أجزاءً من شمال إفريقيا إخفاقات في المحاصيل. وهكذا، فإن الإمبريالية البيئية تدور حول سرقة المكان والزمان، أو سرقة المكان عبر الزمن.
بمجرد أن ندرج البيئة في تحليلنا للإمبريالية، يمكننا أن نرى المزيد ونستوعب أكثر بكثير ممّا كنّا نفعل في الماضي. سآخذ بعض الأمثلة من تونس. الأول: قابس، وهي مدينة وواحة وموقع لأكبر كمية لإنتاج الفوسفات في البلاد. لا تضع الإمبريالية أي قيمة على الزراعة المستدامة أو الحياة –إعادة الانتاج الاجتماعي- في الجنوب. ففي الماضي مثلاً، تسببت في انخفاض أسعار إنتاج الواحات الزراعية البيئية المستدامة بشكل دائم. ولأن الدولة التونسية -التي تحمل فكر الاستعمار- قبلت ورحّبت بـ"منطق" القانون الدولي للقيمة، فأصبح من المربح أكثر أن تُمدِّن المناطق الريفية، بالإضافة إلى نقل القوى العاملة نحو معالجة الفوسفات وتحويل الصخور إلى أسمدة.
وهكذا، فإن السعر -ما أطلق عليه سمير أمين قانون القيمة- جعل من "المنطقي" بالنسبة لتونس الانتقال إلى تصدير الفوسفات واستخدام المياه التي استخدمت في زراعة الرمان والليمون والفلفل باستخدام تقنيات مستدامة بشكل دائم، لمعالجة الفوسفات.
وقد كان هذا جزءاً من استراتيجية التصنيع، بحيث انتقلت الحكومة التونسية إلى ما يسمى "الصناعات ذات القيمة المضافة"، والتي كانت موجودة سابقاً في أوروبا أو الولايات المتحدة. وقد كان ذلك أيضاً جزءاً من زيادة حجم القوى العاملة الصناعية في تونس ودفع البلد نحو الصناعة. ففي تلك اللحظة، لم يرَ المخططون أي تمييز على الإطلاق بين "التنمية" و"الصناعة". بالنسبة لهم، كان المفهومان شيئاً واحداً.
الفوسفات هو أساس الزراعة الصناعية الأميركية، وحتى الزراعة الصناعية التونسية واللبنانية. وبالتالي، فإن الدمار البيئي التونسي مثلاً هو الثمن الخفي؛ قيم الاستخدام المفقودة التي لا يمكن فصلها عن أنماط الإنتاج والاستهلاك الأمريكية.
العامل الثاني الذي دمّر الواحة هو مصنع الخرسانة/الباطون، والذي يستخدم كميات هائلة من المياه. في الواقع، الخرسانة هي أيضاً مادّة تستخدم قدراً عالٍ من الطاقة والمواد. كما أنها أقل كفاءة من الناحية البيئية، مقارنة بالصخور أو الحجر أو اللُبن أو أي أشكال تقليدية أخرى للبناء في تونس، والتي هي أيضاً مناسبة بشكل أفضل لفصول الشتاء الباردة في تونس والصيف الحار، نظراً لأن إنتاج الخرسانة يتطلب كميات هائلة من الطاقة المستندة إلى البترول، وهي طاقة "رخيصة" لأنها تستخدم المكان وحياة المخلوقات والحق في التنمية للأجيال القادمة -خاصة في الأطراف- يصبح "منطقياً" إنتاج مدن مكتظّة في المركز والأطراف على حد سواء. ويصبح من المنطقي استبدال المَزارع التي تحتاج لعمالة كبيرة في الواحة، بالتوسع الحضري غير المخطط له. بين مصنع الفوسفات ومصنع الاسمنت، في غضون 30 عاماً، اختفى حوالي 80% من الواحة.
هناك ديناميكية مماثلة تحدث في بيروت، حيث تكتظّ المباني السكنية الكبيرة والباهظة الثمن ذات الحدائق المنزلية بجوار المنازل ذات المقاييس المتناسقة مع الحجم البشري. هذه عواقب لكيف يكون السعر –سعر المال- وسيلة لهندسة أنماط استهلاك وتخطيط معيّنة. وبالتالي، نظراً لأن الإنتاج الزراعي "لا يستحق" الكثير من المال، يصبح من الأفضل بناء مبانٍ سكنية كبيرة على أراضٍ سكنية ذات قيمة عالية، بدلاً من بناء مدن بمقاييس إنسانية مستخدمين مواد محلية. لست بحاجة لأن أشرح لأي أحد عواقب التمدّد العمراني لبيروت، بما في ذلك حركة المرور والتلوث الهائل.
وأضيف في الختام أن "السعر" ليس مجرد آلية لإنتاج نمط عالمي من الاستهلاك والإنتاج. أو هو كذلك، ولكن هذا النمط هو نمط يتجاهل إعادة الانتاج الاجتماعي لسكّان الأطراف أو بيئة الكوكب ككلّ. السعر آلية لعدم تقدير تلك الأشياء. عندما نناقش إذاً، "العدالة البيئية للفقراء"، فإننا نناقش محاولات لفرض قانون قِيم غير رأسمالي محدّد، محاولات للنضال ضد تدمير الرأسمالية للبيئة والفقراء. ما تبدو عليه تلك النضالات هو تساؤل، بطبيعة الحال، لشعوب الأطراف في الصراع، وليس على هذا النوع من التحليل، الإجابة عليه.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 356
`


ماكس آجل