75 عاماً على تأسيس الناتو: الذراع العسكري للإمبريالية

75 عاماً على تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) من قبل 12 دولة هي الولايات المتحدة الأميركية وكندا من أميركا الشمالية ومعهما 10 دول من أوروبا الغربية وهي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ والدانمارك والنروج والبرتغال وإيسلندا. ففي العام 1949، وبعد سنوات قليلة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، والانتصار الكبير على الفاشية والنازية وصعود الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية كقوّة دولية كبرى، استشعرت دول المركز الرأسمالي بالقلق الشديد على مصير هيمنتها وقدرتها على مواكبة التغيرات.

ففي هذه الفترة كانت الأحزاب الشيوعية في العديد من دول أوروبا الغربية باتت تحظى بما يتراوح بين ربع وثلث أصوات المقترعين، ودخل بعضها إلى حكومات ائتلافية مع الاشتراكيين وقوى أخرى، وصارت مسألة تمكنّها من الوصول إلى السلطة ممكنة في المدى المنظور. أمام هذه التحديات، سارعت دول الاستعمار القديمة التي خرجت مهزومة ومنهكة من الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، اللتان بدأت مستعمراتهما بالاستقلال عنهما تدريجياً بفعل نضال حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، بالبحث عن مخارج تقيها مصير الخروج التام من القدرة على الفعل والـتأثير ومن مواجهة الطبقة العاملة الصاعدة في بلدانها في ظل صعود اليسار والشيوعيين. كانت الولايات المتحدة، المستفيد الأكبر من نتائج الحرب العالمية الثانية التي بقيت بعيدةً عنها لوقت طويل ثم دخلتها لتحصد نتائج الفوز من دون تكاليف الخسارة. وبعد انتهائها، أخذت تعمل على ترجمة صعودها الاقتصادي السريع وبناء قوتها وهيمنتها السياسية والمالية والعسكرية على المستوى الدولي. ورأت أميركا في القواعد التي أقامتها بريطانيا وفرنسا في مستعمراتها السابقة حول العالم منصّة هامة يمكن أن تستفيد هي منها أيضاً من خلال التحالف الجديد. ولا تزال العديد من هذه القواعد تستخدم حتى اليوم في ظروف وأمكنة استراتيجية مثل القواعد البريطانية في قبرص التي تستعمل لضرب الشرق الأوسط وكان آخرها استعمالها ضد اليمن، وقاعدة جبل طارق التي تمسك بمدخل البحر المتوسط وبالتالي تتحكم بكل السيطرة الأمنية فيه. في ظلّ هذه الظروف، لجأت قوى الاستعمار القديم إلى القوّة الامبريالية الصاعدة الكبرى لبناء تحالف عسكري سياسي بقيادتها على ضفتي المحيط الأطلسي، يهدف إلى تأمين المصالح الاقتصادية والهيمنة لدول التحالف وإلى صدّ التقدّم الشيوعي في أوروبا وفي العالم.
من هذه المنطلقات كانت وظيفة الناتو، ومن أجل ذلك تخاض الحروب، بالمباشر أو بالوكالة، وتدار الصراعات وتحاك المؤامرات وتطبخ الانقلابات. وفي هذا السياق جرى العمل على توسيع عضويته لمحاصرة الاتحاد السوفياتي في حينه ولاحقاً روسيا والصين، ولرسم الخرائط الجديدة للدول بقوة السلاح والعنف، وعلى وقع دمار المدن والبلدات وجثث ملايين الضحايا.
فبعد أن انطلق الناتو بتحالف جيوش وحكومات 12 دولة، استمرّ في توسعه حتى صار اليوم يضم 32 دولة كاملة العضوية، ويجري العمل على توسيعه أكثر فأكثر في شرقي أوروبا. لقد شكّلت سياسة توسيع الناتو العامل الأساسي لانفجار الحروب والصراعات في شرقي أوروبا، تحديداً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، فجرى ضرب يوغوسلافيا وتفكيكها إلى دويلات في التسعينيات، وقام الناتو بقصف جيشها وحكومتها حتى تمكّن من إخضاعها بعد أن دخلت في دوامة عنف إثنية ومذهبية لسنوات، إلى أن تمّ تفكيكها وضم كل دولها، ما عدا صربيا، إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثمّ إلى الناتو.
من المكاسب الاستراتيجية التي حققتها الامبريالية الأميركية من خلال الناتو هو تمكنها من نشر أسلحتها النووية على مقربة من روسيا، فحتى العام 1949 كانت أميركا تمتلك السلاح النووي دون القدرة على استهداف روسيا به، لكن بعد دخول الدول الأوروبية معها في هذا التحالف العسكري، نشرت أميركا قواعد وجيوش في عدد من الدول الأوروبية، ومعها نشرت أكثر من 200 رأس نووي قادرة على استهداف روسيا. أمّا مع خطط التوسع الجديدة بعد العام 1990، فصارت جيوشها وقواعدها على مرمى حجر منها. ومن الضروري التأكيد أن الناتو هو تحالف نووي ايضاً إذ تنص عقيدته على إمكانية استخدام السلاح النووي لضرب الخصوم، وعلى إمكانية استخدامه في الضربة الأولى، أي بمعنى آخر المبادرة إلى استخدامه هجومياً قبل تعرض دوله لأي اعتداء واستعماله بالتالي دفاعاً عن النفس. وهذا الأمر ليس بمستغربٍ حيث كانت أميركا الوحيدة من كل الدول العالم التي استعملت السلاح النووي مرتين لإفناء مئات آلاف اليابانيين في هيروشيما وناغازاكي بعد أن كانت اليابان قد هزمت في الحرب العالمية الثانية ولم تعد تشكّل خطراً فعلياً على أميركا. فكانت الجريمة الكبرى ضد الإنسانيّة استعراضاً للقوّة المهيمنة الجديدة فقط.
أولى الحروب الكبيرة التي خاضتها حكومات الناتو بعد الحرب العالمية الثانية كانت الحرب الكورية في العام 1950-1953، والتي أدّت في نهاية الأمر إلى تكريس تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين شمالية وجنوبية، ومنع توحّد الشعب الكوري في دولة واحدة، وإقامة منصّة جغرافية وسياسية وعسكرية للولايات المتحدة على حدود الصين الشعبية التي كانت قد انتصرت ثورتها في العام 1949. أمّا بعد انتهاء الحرب الباردة، فكانت أبرز حروب الناتو هي الحرب في أفغانستان منذ العام 2001 وغزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003، وإطلاق حملة القصف الجوي على ليبيا في العام 2011 وغيرها من الحروب العدوانية التي تطول لائحتها. أمّا اليوم، فالخطط التوسعية قائمة وصولاً إلى العمق الروسي من خلال الإصرار على ضم أوكرانيا وجورجيا إلى عضوية الناتو، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تواجد الجيوش الأميركية بسلاحها وعتيدها بما فيها سلاحها النووي على بعد مئات الكيلومترات من المدن الروسية، وهذا أحد أهم أسباب تفجّر الصراع العسكري المباشر مع روسيا التي بات أمنها القومي مهدداً بفعل هذا التوسّع.
وكان رئيس وكالة الاستخبارات المركزية وليام برنز قد صرّح حرفياً في العام 2008، في رسالة إلى السفير الأميركي في موسكو، أي قبل 14 عاماً من انفجار الصراع في أوكرانيا فكتب ما يلي: "يقول لنا خبراؤنا أن روسيا قلقة من انقسامات عميقة في أوكرانيا حول انضمامها إلى الناتو، حيث تعارض ذلك بشدّة المناطق ذات القومية الروسية وهو ما قد يقود إلى انقسام كبير يتضمن العنف أو ربّما أسوأ الحرب الأهليّة. وفي هذه الحالة، قد تضطر روسيا لاتخاذ قرار حول التدخّل في أوكرانيا، وهو قرار لا ترغب روسيا أن تكون مضطرةً لمواجهته". لكنّ هذا المناخ لم يجد صداه عند مراكز القرار الأخرى في أميركا وفي مختلف دول الناتو، إذ استمرّت السياسات التوسعية حتى اندلعت الحرب بعد أن اضطرّت روسيا فعلياً لمواجهة استباحة جوارها وصولاً حتى حدودها.
من المهم الإشارة إلى أنّ حلف الناتو هو تنظيم عسكري في خدمة مصالح سياسية واقتصادية، ويعمل وفق أجندة وإيديولوجيّة النظام الرأسمالي والاقتصاد الحرّ. ونستحضر هنا كلمة السيناتور الأميركي جو بايدن في العام 1997، والذي أصبح اليوم رئيساً للدولة القائدة للناتو، خلال مشاركته في مؤتمر في مدينة وارسو في بولندا، إذ وضع في حينه شروطاً لقبول بلاده عضوية بولندا في الناتو، وكانت هذه الشروط اقتصادية وإيديولوجية قبل أن تكون عسكرية وأمنيّة، إذ قال حرفياً: "كل الدول الأعضاء في الناتو يجب أن تتمتع باقتصاد السوق الحرّ حيث يلعب القطاع الخاص الدور القيادي فيه"، ثم أضاف قائلاً: "الخصخصة الواسعة تشكّل خطوة أساسية لإعطاء الشعب البولندي دوراً مباشراً في المستقبل الاقتصادي لبلاده. وأنا أؤمن أن الشركات الكبرى المملوكة للدولة يجب أن يتم وضعها بيد الملكية الخاصة بحيث يجري تشغيلها وفقاً للمصالح الاقتصادية قبل تلك السياسيّة، وأنّ الشركات الكبرى مثل المصارف وقطاع الطاقة والنقل الجوي ومناجم النحاس وقطاع الاتصالات، يجب أن تجري خصخصتها".
وبفضل هذا الوضوح الذي عبّر عنه بايدن دون حياء وقبل بروتوكولات التصريحات الرئاسية، يمكن فهم الدور الحقيقي للناتو كمنظمة تعمل في خدمة الرأسمال الغربي تحديداً، وليس كمنظمة أمنية تعنى بأمن واستقرار شعوب دولها حصراً كما تعلن وتصرّح أمام شعوبها. المطلوب بالنسبة للشركات الكبرى وللرأسمال الأميركي والأوروبي أن تضع الدول الراغبة في عضوية الناتو، وكذلك مختلف دول العالم، كل قطاعاتها الحيوية من مصارف وطاقة ومناجم ونقل واتصالات وصحة وتعليم في خدمة رأس المال، وأن تتاح للشركات المتعدّدة الجنسيات فرصة السيطرة على هذه القطاعات الحيوية حول العالم، كمصدر للربح والإثراء.
مع فهم طبيعة الترابط العضوي بين الامبريالية والرأسمالية، أو بين الناتو والنظام الاقتصادي الحرّ، يعود السؤال الجوهري حول كيفية مواجهة هذا المشروع والبدائل المطروحة له، ويعود لبّ مسألة التناقض بين القوى التي تدعو لمواجهة الهيمنة الأميركية وأذرعها العسكرية لكنّها تتبنّى سياساتها ولا تتخطّى دائرة مفاهيمها، وتقوم بتبنّي نظرتها ذاتها في مسائل اقتصاد السوق والملكيّة الخاصة للقطاعات الاقتصادية الأساسية، وتلعب ضمن شروط النظام نفسه، في القطاع المصرفي والاقتصاد الريعي والنقل والصحة والطاقة والثروة النفطية وغيرها. فهل يمكن مواجهة الرأسمالية الامبريالية والعسكرتاريّة برأسماليات محليّة مذهبية وقوميّة قاصرة وعاجزة عن صياغة بدائل فعليّة؟

*مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 421
`


عمر الديب