مسيرٌ طويل (2) الصين في العصر الجديد.. تنظيميا أيضا

منذ سنين، أعلن أمين عام الحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ، وبالاستناد إلى كلّ المتغيّرات في الصين وعلى مستوى العالم، أنّ مسيرة تطور الصين دخلت في مرحلة جديدة، وأنّ على الحزب الشيوعي الصيني البدء بتحضير نفسه للتصدّي لمهام العصر الجديد. ومنذ ذلك الوقت (عام 2013) أدخل إلى أدبيات الحزب الشيوعي الصيني مصطلحاً جديداً هو "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد".

التغيّرات في الواقع تستدعي تطوير الرؤية
لازم التغييرُ والتطويرُ الدائم مسيرةَ الحزب الشيوعي الصيني في كل مراحل حكمه، فلم يكن هناك أي "مقدسات" تقف عائقاً أمام الوصول إلى هدف "نهضة الأمة الصينية وسعادتها" الذي وضعه الشيوعيون الصينيون نصبَ أعينهم منذ تأسيس الحزب في عشرينيّات القرن الماضي، وفي كلّ المراحل كانوا يدخلون التعديلات التي تفرضها ضرورات التعامل مع الواقع من أجل تغييره، ولطالما كانت هذه التعديلات تثير زوبعة من ردود الفعل والانتقادات، داخل الحركة الشيوعية العالمية وخارجها، وإلى اليوم الكثيرون لا يعتبرون الحزب الشيوعي الصيني حزباً شيوعيّاً، والسبب هو الاجتهادات والتعديلات التي أدخلها الصينيون على النظرية حتى أصبحت تُسمّى "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، وهي نفسها ضمنت للحزب الاستمرارية، وللصين التطوّرَ والتقدّم، ولشعبها الخروجَ من الفقر والبؤس نحو الحياة الكريمة، طبعاً هذا لا يعني أنه لم يكن هناك إخفاقات نظرية وعملية في مقاربة بعض القضايا بل على العكس، فإن الشيوعيين الصينيّين نفسهم يعترفون بذلك، وخلال مسيرتهم أعادوا محاكمة هذه الأفكار وأصلحوا الكثير من الثغرات وأضافوا الجديد إليها.
وبالاستناد إلى تقرير اللجنة المركزية أمام المؤتمر التاسع عشر عام 2017، فإن هذه المرجعيّات الفكرية التي يسترشد بها الحزب يمكن تكثيفها حسب تسلسلها التاريخي على الشكل التالي: الماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ وأفكار "التمثيلات الثلاثة" ومفهوم التنمية العلمية. كما تمّت إضافة "فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد" خلال التعديلات الدستورية التي حصلت منذ أسبوعين إلى هذه المرجعيات والمبادئ، والتي يسعى الحزب الشيوعي الصيني من خلالها إلى تطوير خططه السابقة التي يتم وضعها على المدى الطويل، والتي تهدف إلى تحقيق التحديث الاشتراكي بحلول عام 2035، وأن تصبحَ الصين "دولة اشتراكية عظيمة وجميلة" بحلول 2050.
و من الناحية العملية فهذا يعني أن الحزب الشيوعي الصيني لديه القدرة على تطوير أفكاره وإدخال ما هو جديد إليها من خلال ربط النظرية بالممارسة، وبهذا الربط وحده يمكن قياس مدى تناسب الأفكار مع مهمة تغيير الواقع القائم نحو الافضل، بعيداً عن الجمود العقائدي، والأهم أن الحزب لديه الجرأة والقدرة على نقد الأفكار والسياسات والمرجعيّات، حيث يمكنه ذلك من القول أن هذا الفكر جيّد، ولكنه بحاجة إلى التطوير ليتناسب ومتغيّرات العصر، وأيضاً ليتناسب مع الخصائص الصينية، ومن هنا تأتي هذه المرجعية الفكرية المُركّبة، والتي تختزن دروسَ كلّ التجارب السابقة بإخفاقاتها وانتصاراتها، وهي تحتاج للنظر فيها بشكل دائم.
هل يمكن تحقيق كلّ ذلك دون النظر في النظام الحزبي الذي سيقود الصين لتحقيق هذا الهدف؟
إنّ حكم بلد مثل الصين، بكل خصائصها، يستدعي التطوير الدائم في أساليب الحكم والقيادة، خاصّة أنّ الحزب الحاكم كان يسعى للنجاح في تحقيق المهام، فكيف إنْ كانت هذه المهمّة هي الوصول إلى سعادة الشعب الصيني ضمن نظامٍ اشتراكيّ حديث، فهذا يستدعي الجرأة والابتكار الدائم في أساليب القيادة والتنظيم.
لذا، وبما أنّ الحكم في الصين للحزب الشيوعي، والذي يعبّر عن استرشاده -بالدرجة الأولى- بالفكر اللينيني في التنظيم، فهذا يعني أنّ التعديلات التنظيمية تصبح ضرورية لمواكبة المهام التي يطرحها الواقع الجديد، فلينين لجأ إلى أكثر من شكلٍ تنظيميّ خلال مراحل الثورة، وإلى أشكال أخرى ما بعد نجاح الثورة ودخول مرحلة بناء الدولة، فلكلّ ظرفٍ سياسيّ شكلٌ يناسبه من أساليب التنظيم السياسي والعلاقات السياسية الداخلية، وفي الحالة الصينية اليوم، فنحن نتحدّث عن شكل تنظيمٍ سياسيّ يضمن الاستقرار والاستمرارية السياسية للحزب الحاكم من أجل إنجاز مهام النهضة العظيمة، فحسب الرئيس الصيني، الاشتراكية ذات الخصائص الصينية دخلت في مرحلة جديدة، والتناقض الرئيسي في الصين تحوّل إلى تناقض بين حاجة الشعب المتزايدة إلى حياة سعيدة وجميلة وما يعيق هذا الهدف أي التنمية غير المتوازية ولا الكافية، وهذا يعني طبعاً أن الصين انتقلت إلى المراحل الأولى من بناء الاشتراكية(هل فعلاً هذا هو التناقض الرئيسي في الصين؟ سيكون لنا عودة للإجابة عن هذا السؤال في مقالة أخرى)، لذا فمن الضروري أنْ يتمّ إنتاج نظامٍ حزبيّ وسياسيّ جديد يتناسب مع هذه المهمات الجديدة.
وقبل الحديث عن بعض جوانب هذا النظام الجديد، لا بدّ من الإشارة إلى واحدة من أهم ميّزات القيادة في الصين، وهي التخطيط القصير والطويل الأمد. فيمكن القول أنه في الصين حصراً يمكنك أن تجد خططاً تنموية تمتدّ لعشرات الأعوام القادمة(هناك خطط لأعوام 2025 و2035 و2050). فمثلاً، عندما طرح الرئيس الصيني مبادرة الحزام والطريق عام 2013 في كلمة له خلال مؤتمر دولي كانت مجرد فكرة، وكان من الممكن أن يقول متابعو هذه الكلمة أنها ضربٌ من الخيال والوعود والأحلام (خاصةً إذا كان المتابع من العالم العربي، فنحن نعيش على وعود حكّامنا الفارغة)، إلّا أنّه وبعد خمسة أعوام على ذلك الاقتراح، أصبحت هذه المبادرة حقيقة واقعية، وضُخّ في مشروعاتها التي نُفّذت وتُنفّذ مئات مليارات الدولارات، وهي مستمرة وبزخمٍ قويّ أيضاً، حتى وصفها بعض الاقتصاديين أنها أضخم مشروعٍ اقتصادي في التاريخ. هكذا مبادرة تدلّ على المنهجية التي يعمل بها قادة الصين، القائمة على التخطيط القصير والطويل الأمد في نفس الوقت، والذي يحتاج إلى الاستقرار والاستمرارية بشكل خاص، فلا يمكنك أن تضع خطّة لمدة خمسين سنة وأنت لا تضمن وجودك في الحكم لخمس سنوات قادمة.
لذا، وبناء على ما سبق، أتى النظام الجديد ليتناسب وهذا النهج في الحكم، أي التخطيط الشامل والطويل الأمد، فكانت احدى أهم ميزات هذا النظام الجديد أنه يكفل استمرارية الحزب في قيادة الصين "دون أن يؤدي ذلك الى تعسف الحزب الحاكم وتغييب الديمقراطية"، ففي الصين هناك سبع أحزاب سياسية، "تشارك جميعها في وضع سياسات الدولة ضمن اطار المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي" ، والنظام الجديد يكفل "عدم حصول تنافس سلبي على السلطة بين هذه الأحزاب، منعا لأي اضطرابات سياسية تؤدي الى قطع استمرارية خطط التنمية الموضوعة".
هل سينجح هذا النظام الجديد؟
إذا عدنا قليلا الى التاريخ، الحزب الشيوعي الصيني هو حزب الثورة الشيوعية في الصين، وبهذا المعنى فهو الحزب الذي سيقود الصين نحو هذا الهدف العظيم، على ان لا يتحول الحزب نفسه الى سلطة بالمعنى البرجوازي، وأي تعديل في هذه المعادلة سيؤدي الى ضربها بالكامل، أي اذا تخلى الحزب عن هدفه النهائي فهذا سيؤدي بالضرورة الى عدم استمراريته بالحكم، وهناك كثير من الأمثلة في التاريخ الحديث على هكذا وضعية، ومن جهة أخرى اذا تم سحب السلطة من يد الحزب الشيوعي فهذا سيؤدي حكما الى قطع الطريق نحو الوصول الى هدف سعادة الشعب الصيني لا بل والعودة الى ما قبل الثورة أيضا. لذا فإن النظام الجديد يطمح واضعوه بأن يكفل استمرارية الحزب في قيادة الصين نحو هدفها النهائي، دون أن يكون هناك إمكانية لحدوث أي قطع في هذه العملية المستمرة، والتي بدأت منذ العام 1949 وأثبتت انها عملية ناجحة، حيث نقلت الصين من بلد زراعي متخلف يتقاسمه الاستعمار، الى ثاني أقوى اقتصاد في العالم. ولكن هل سيتمكن هذا النظام الجديد من ضمان هذه العملية؟ طبعا لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال اليوم، أما الأكيد، فان هذا النظام نفسه سيخضع للتعديل والتطوير في حال فشله فيتحقق المطلوب منه.
يبقى سؤال مهم، من سيحاسب الحزب إذا أخفق وإذا تخلّف عن الثقة التي منحها الشعب الصيني له؟ باختصار، إن تجربة 69 سنة من حكم الحزب أثبت أن هذا الحزب يحاسب نفسه بنفسه، وكل ما قلناه سابقا يدل على ذلك(التطوير والتغيير الدائم على كل المستويات)، ويمكن أن نضيف معطى تاريخي، الشعب هو من يعطي الثقة وهو من يسحبها، وعندما سيخطأ الحزب سيحاسبه الشعب وسيكون خارج الحكم تلقائيا كما حصل في مئات التجارب السابقة في التاريخ. وهذه العملية تطرح مجموعة من الأسالة التي لم نتمكن من تلمس إجابات عليها مثل، كيف يمكن إشراك الجماهير بشكل أوسع في هذه العملية؟ وماذا عن علاقة كوادر الحزب بهذه الجماهير؟ والاهم، ماذا عن غربة الشباب الصيني عن نظامهم السياسي وعن السياسة بشكل عام؟ هذه أسالة لم نجد لها أجوبة في النظام السياسي الجديد، ولكنها أسأله محورية، حيث أن الغرب والولايات المتحدة تحديدا تحاول يوميا إيجاد خرق تتمكن من خلاله زعزعة استقرار الصين، ونعتقد أن "الجهل السياسي" من جهة، وسيادة الأفكار الليبرالية لدى فئة الشباب في الصين، ممكن ان يكونا أرضية خصبة لصياغة مخططات غربية تسعى لزعزعة استقرار الصين.
أخيرا، يقول الرئيس الصيني أمام الشيوعيين في مؤتمرهم التاسع عشر "لقد أثبت التاريخ وسوف يبرهن باستمرار أنه لولا قيادة الحزب الشيوعي الصيني لكانت نهضة الأمة وهماً من الأوهام"، ويضيف "اذا أراد حزبنا أن يظل طليعة العصر والعمود الفقري للأمة، وأن يظل حزبا حاكماً ماركسياً، فلا بد أن يظل هو نفسه ممتازا...وأن يزيل كل الفيروسات التي تعدي جسمه السليم". هل سيتمكن الحزب من إزالة هذه الفيروسات فعلا؟ او بشكل أدق هل سيستطيع الحزب تشخيص هذه الأمراض بشكل صحيح من أجل علاجها؟ الواقع وحده هو ميدان الإجابة على هذه الأسئلة.

  • العدد رقم: 334
`


أدهم السيد