غزة ليست سوى بداية البدايات

كانت وما زالت غزة منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عائقاً أمام المشروع الاستيطاني التوسعي، وبعد نتائج انتخابات 2006 الفلسطينية قرر العالم أجمع أن يدير ظهره إلى تلك البقعة الصغيرة من الأرض مع حرصه على تأديبها من حين لآخر لأنها باتت معقل للمقاومة الفلسطينية.

الغزاويون الذين نرى دماءهم وأشلائهم على شاشات التلفاز لم تبدأ مأساتهم اليوم، بل بدأت منذ العام 2007 حين أطبق عليهم المحتل بحصار خانق بعد ما نزع صفة الإنسانية عنهم طوال سنوات بهدف إخضاعهم وتركيع مقاومتهم على مرأى ومسمع العالم "المتحضر" أجمع. حتى دول الاقليم نأـت بنفسها من التدخل بشكل فاعل وجاد لإيقاف المذبحة المستمرة بحق الفلسطينيين واقتصر تدخلها على نحو يؤهلها للجلوس على طاولة المفاوضات في اليوم الذي يلي المذبحة.
لن نتحدث هنا عن الأنظمة العربية لأنها شريك أساسي فاعل في الجريمة ولكننا نتحدث عن الشعب العربي والعالم الاسلامي الذي يسمى بإخوة الدم واللغة والعقيدة، وعن الجماهير العربية المفترضة وقواها الفاعلة.
اغرب ما يواجهه الفلسطينيون اليوم ليست المحرقة التي تلتهم نسائهم وأطفالهم، إنما صمت الشعوب العربية المتابعة والمتفرجة على تفاصيل المحرقة.
كل ذلك يحدث والغزاويون يمنحوننا المزيد من الوقت من خلال صمودهم وثباتهم على حساب دمائهم وأشلاء أطفالهم ونسائهم لكي ننقذ إنسانيتنا من غيبوبتها.
ألا تخشى هذه الجماهير مما يخبؤه الغد لها، أم أنها تعتقد أن أزماتها التي تعيشها سوف تنتهي مع انتهاء مذبحة غزة؟ لا ياسادة، مذبحة غزة ما هي إلا بداية البدايات.
إن ما يجري من مذبحة اليوم على الأرض العربية الفلسطينية ما هو إلا إعلان واضح من قبل العالم "المتحضر" أنه على استعداد أن يعاقب جماعياً بالسحق والابادة كل من يجرأ على الوقوف في وجهه من شعوب عالم الجنوب وإن أي تمرد عليه وعلى مخططاته ومصالحه سوف يواجه بالسيف والنار وان مسار المذابح والمجازر بحق الشعوب العربية على وجه الخصوص لن يتوقف وهو مرشح للتصعيد، فالنظام العالمي لم ينسى الصدمة التي شكلتها له صحوة الشعوب العربية وقدرتها على إسقاط وكلائه في الداخل، فسرعان ما استحوذ عليها وعلى مساراتها ممهداً الطريق لشركائه الاقليميين والدوليين لسحقها.
وما سقوط العواصم العربية الواحدة تلو الاخرى إلا نتيجة نجاح النظام العربي الرجعي في قمع كل محاولات الإصلاح والتغيير من خلال حكم الفرد والحزب والعائلة فانكشف زيف الدولة الوطنية دولة الفساد والقمع والاستبداد.
يجب على الجماهير العربية بشكل عام أن تلحظ ثلاثة خصائص أساسية للمحرقة التي تجري في غزة اليوم، أولها، حجم القصف والتدمير الهمجي الذي لم يعرف له حدوداً والمراد منه أن تصبح هذه البقعة الجغرافية من العالم غير صالحة للعيش ومن يبقى على قيد الحياة فسيتعين عليه الرحيل.
ثانياً، المحرقة الجارية في غزة اليوم تحظى بدعم غير محدود من دول المركز على المستوى العسكري والدبلوماسي والسياسي، وكل هذه الضوضاء الحاصلة في العالم تأتي فقط في إطار التمنيات على القاتل بأن يتروى قليلاً في عمليات قتله للمدنيين، وأن يحرص بألا يكون قتله عشوائياً، إنما وفق "خطة"، وأن يسمح بإدخال بعض المواد الغذائية، فلا ضير للمحكوم عليهم بالاعدام من تناول بعض الأطعمة قبل موتهم المحتوم.
أما الخاصية الثالثة، فتتمثل في الصمت العربي الرسمي والشعبي، ناهيك عن العجز الإسلامي الذي ساهم بشكل كبير في تواصل المحرقة واستمرارها على مرأى ومسمع العالم كله.
على الجماهير العربية أن تعي ان ما يحدث في غزة وما حدث قبلها في العراق وفي سوريا والسودان وليبيا ليس إلا مقدمات لما سيحدث في كل العواصم العربية ومجتمعاتها لأن الهدف واحد والمستهدَف واحد.
أما بقية المجتمعات العربية التي تظن أنها مستثناة من المذبحة، فهذا دليل على جهلها للتاريخ وقوانينه، فغزة لا تدافع عن فلسطين فحسب، بل هي في الحقيقة تدافع عن مصير كل الشعوب العربية.
بعد الانتهاء من غزة سينتقل جحيم المستعمر إلى دولة مجاورة وستكون مصر على الأرجح كونها أصبحت جاهزة نظراً لعمق الأزمات الاقتصادية التي تعيشها، مما سيعيد إحياء مطامع إسرائيل بسيناء، وما سيتبقى من ارض الفراعنة سيقسم تحت شعار حقوق الأقليات. بإسقاط مصر يكون قد سقط قلب المنطقة وعمقها الديمغرافي، بعد سقوط أجنحتها سوريا والعراق، ويصبح جنوب مصر وغربها (السودان وليبيا) ليستا سوى تفاصيل امام حجم ما يخطط لها من عمليات تقسيم وتجزئة برعاية مباشرة من الكيان المحتل للارض العربية، أما سائر المجتمعات العربية في شمال أفريقيا فهي واهمة إن ظنت أنها بمناى عن سيل الدماء الجارف في غزة، فكافة المؤشرات ايضا تؤكد أنها تسير هي الأخرى بسرعة نحو الانفجار بعد فشل كل محاولات التغيير والإصلاح الداخلي ووصول الاقتصاد فيها إلى أوضاع كارثية. أما الوهم الاكبر فهو لدى بعض دول الخليج المسارعة في التطبيع مع الكيان المحتل ظناً منها أنها ستكون بمأمن من الحريق الجارف وما التطبيع الساعية اليه إلا بمثابة حصان طروادة الذي سيعمل على أختراق امن مجتمعاتها واقتصادتها وتفتيتهم بنيويا.
ليست مقاومة الشعب الفلسطيني وضريبة الدم الباهظة التي يدفعها الآلاف خياراً ولا مغامرة، بل هي آخر وسائل الحياة. المقاومة في غزة هي آخر فعل بشري متمرد أمام آلة الموت الاستعمارية التي لن ترحم أحداً، فخيار الشعب الفلسطيني في مواجهة المحتل هو دليل على أن هذا الشعب وحده يرفض أن يموت.
*باحث فلسطيني

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 420
`


نشأت زبداوي