انتفاضة تشرين.. تأملات

 إذن، فقد مرّ عام على أيام تشرين، العابرة جسور التحدي.. المفعمة بالأمثلة الملهمة.. والمتطلعة الى غد العراق الوضاء.. ذلك التراكم الكمي للسخط عبر سنوات المعاناة المريرة، وقد أعقبت عقوداً من الاستبداد والحروب والحصار والانحطاط الروحي، أدى الى تحول نوعي في الحراك الاجتماعي.. من شرارة ذلك السخط المتعاظم اندلع لهيب الانتفاضة ونهض الأمل المتقد، دوما، مثل جمرة تحت رماد بلاد لا تعرف أن تستكين.. وكيف لها أن تستكين وقد سالت في دروبها دماء الضحايا، وامتلأت شوارعها بملايين من "مقتحمي السماء"، حملة الرايات الخفاقة، مطلقي الأصوات الصادحة، التي تجول في بلاد الرافدين، وقد تألقت جذوتها، وتحولت الى شبح ترتعد أمامه فرائص اللائذين بالنظام القديم..


صيرورة مفتوحة الآفاق
هذا، إذن، هو اقتحام آخر للسماء ذاتها.. تمرين الكفاح الذي لن يكون الأخير..
وحين نحتفي، اليوم، بهذا الحدث الجليل، المتواصل والمتعاظم، فاننا لا نتوقف عند حدود الاستذكار، بل نمضي الى حيث يتعين استثمار هذا الحدث الجاري بعنفوانه، لتقديم اجاباتنا على أسئلة حارقة، وتحقيق غاياتنا بالوسائل الثورية السلمية، ونحن نعرف أن أمامنا طريقا طويلا لا يخلو من الأشواك والانعطافات، لكنه طريق تنيره أمثلة الشهداء الملهمة، والرؤية الواضحة، والاصرار على الوصول الى تلك الضفاف..
والانتفاضة التي اندلعت في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، وبلغت ذروة في الخامس والعشرين منه، هي صيرورة مفتوحة الآفاق، يصعب الجزم بما ستؤول اليه مصائرها، وتحديد استنتاجات نهائية بشأن عواقبها الاجتماعية والثقافية، مع أنها أسقطت حكومة، وأخلّت بتوازن اجتماعي سياسي، بحيث بات من المتعذر العودة الى الأوضاع التي كانت سائدة قبل اندلاعها، وقدمت، بذلك، دلالة عميقة ودرسا بليغا، من بين دلالات ودروس كثيرة، على أن ارادة الشعب قادرة على الاطاحة بعروش الاستبداد واجتراح المآثر.
ولعل من بين سمات هذه الانتفاضة، التي يمكن النظر اليها باعتبارها ممارسة كفاحية مميزة (سنعود الى هذه السمات والدروس الغنية في موضع لاحق)، أنها قدمت مؤشرات واضحة على تحول نوعي في الوعي السياسي للمجتمع، وخصوصا في أوساط الشباب والنساء والمثقفين، وسط استعداد شعبي أشمل للمشاركة في الانتفاضة.
ومن الجلي أن الانتفاضة لم تنبثق من عدم، وانما جاءت حصيلة لتعمق الأزمة الاجتماعية بتجلياتها المتنوعةعلى خلفية صراع المصالح من أجل السلطة والثروة والنفوذ. ويصح القول إن الانتفاضة ليست وليدة الصدفة المتلازمة مع العفوية، ذلك أن العوامل الموضوعية هي التي خلقت وعمقت الأزمة الناجمة عن فشل نظام المحاصصة وتفشي الفساد وسوء الادارة ونمط التفكير المتخلف والتدخلات الاقليمية والدولية.
كل هذا دفع الملايين الى مزيد من القناعة بأن طريقة الحكم القائمة عاجزة عن حل معضلات البلاد المستعصية، وانقاذها من الانحدار المأساوي المروع. وغدا واضحا، منذ البداية، أن لا امكانية لاصلاح الأوضاع، ناهيكم عن تغييرها، دون حركة جماهيرية واسعة، متعددة الأشكال الكفاحية، ضاغطة على السلطة من أجل الاستجابة لمطالب المنتفضين العادلة.
موقفنا من الحراك
أما موقف حزبنا الشيوعي من الحراك السياسي الاجتماعي الاحتجاجي فلا يتحدد وفقا لردود الأفعال والاجتهادات الظرفية، وانما "يستند (كما أوردت افتتاحية "طريق الشعب" في عددها ليوم 24 آب 2020) الى مرتكزات مبدئية فكرية وسياسية راسخة، والى قراءة وتحليل دقيقين للأزمة البنيوية المتفاقمة لمنظومة الحكم، القائمة على المحاصصة الطائفية والقومية، حاضنة الفساد وخراب الدولة، ولسبل الخلاص منها، والانطلاق نحو دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، المدنية الديمقراطية، والتي يضطلع فيها الضغط الجماهيري والحراك الاجتماعي والسياسي بدور رئيس في تحقيق ارادة التغيير لمنظومة المحاصصة والفساد".
وانطلاقا من هذا التحليل ساهم حزبنا في الحركة الاحتجاجية منذ بدايتها في شباط 2011، وعند اندلاع نسختها الجديدة في تشرين أول الماضي أعلن حزبنا انحيازه التام لمطالبها العادلة، مشاركا فيها ومدافعا عنها.
في ضوء المنهجية الماركسية والخبرة الثورية
تعلمنا الماركسية أنه حين تبدأ أعداد غفيرة من الناس بالنشاط فإن أول من يؤخذوا على حين غرّة هم ليسوا أولئك الذين كافحوا زمنا مديداً، بل الحكام الغافلون، ذلك أن الطبقة الحاكمة أقنعت نفسها بأن المقاومة مستحيلة، على عكس الثوريين القادرين على التنبؤ بالأحداث والمستعدين لها. وهذا غالبا ما يميز ما يسميه ماركس "الثورة الجميلة"، أي اللحظات الأولى للثورة التي يبدو أنها توحد غالبية المجتمع في النضال ضد النظام القديم، وهو ما تجلى عندما اندلعت انتفاضة تشرين بكل عنفوانها، بحيث بدا أن المجتمع كان، بأسره، موحدا وراء شعار واقعي بسيط: "نريد وطن"!
كما تعلمنا الخبرة الثورية أن دخول الجماهير الحراك بصورة عفوية لا يجعل تنظيم الصراع أقل ضرورة، بل، على العكس، يجعله أكثر أهميةً والحاحاً. وقد دار في الماركسية نقاش مديد حول المشاركة في الثورات العفوية. وكانت وجهة نظر ماركس تؤكد أن المشاركة ضرورية حتى وإن كان جليا أن الثورة فاشلة، لأن الهدف هو "تدريب الشعب على الثورة"، والارتقاء به الى خوض معركة ظافرة.
هذا ما فعله ماركس حيال كومونة باريس (18 آذار 1871) التي يجب أن تظل دروسها ماثلة أمامنا ونحن نقيّم انتفاضة تشرين، وعلينا أن نستعيد، على الدوام، هذه الخبرة التاريخية التي لا غنى عنها.
وعلى الرغم من أن كومونة باريس لم تستمر اكثر من 72 يوماً، حيث سقط آخر مقاتليها يوم 28 أيار، الا أنها استطاعت، في هذه الأيام القليلة، أن تقدم أغنى الدروس حول مهمات الاطاحة بالنظام القديم وتحرير المجتمع. وأظهرت الكومونة كيف أن البرجوازية لا تلقي السلاح بل تحارب بكل ضراوة أية محاولة لبناء المجتمع الجديد.
لم تقف البرجوازية مكتوفة الأيدي وهي ترى الكومونة تهدد سلطة رأس المال، ورأت أن عليها أن تتحد لمواجهة هذا الخطر، فاتحد أعداء الأمس، بسمارك وتيير، لمواجهة عمال باريس.
أما السبب الرئيسي لهزيمة الكومونة فيكمن في عدم وجود تنظيم مستقل للعمال، بينما كانت أفكار بلانكي وبرودون حول وهم خلود الملكية الصغيرة مهيمنة.
فما هي خلاصة خبرة كومونة باريس؟ وكيف تجلت بطولة ثوار الكومونة ؟
كان ماركس، كما أشرنا، قد حذر عمال باريس في خريف عام 1870، أي قبل الكومونة بأشهر عدة، من أن أية محاولة لاسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع اليها اليأس. ولكن عندما فرضت المعركة الفاصلة وغدت الانتفاضة واقعاً حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماس رغم نذر الشر. ولم يصر ماركس على اتخاذ موقف متحذلق لإدانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها"، كما فعل الماركسي الروسي بليخانوف عندما كتب في تشرين الثاني 1905 مشجعاً نضال العمال والفلاحين، ولكنه أخذ يصرخ بعد كانون الأول 1905 على طريقة الليبراليين "ما كان ينبغي حمل السلاح".
ولم يكتف ماركس بالتعبير عن الاعجاب الحماسي ببطولة ثوار الكومونة الذين "هبّوا لاقتحام السماء" حسب تعبيره، بل رأى في هذه الحركة الثورية، على الرغم من إخفاقها في تحقيق غاياتها، خبرة تاريخية ذات أهمية عظمى، وخطوة عملية أهم من مئات البرامج والمناقشات.
ووضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه التجربة واستخلاص الدروس منها، وإعادة النظر في أفكاره على ضوئها. وكان "التصحيح" الوحيد الذي رأى ماركس ضرورة ادخاله على "البيان الشيوعي" مستوحى من الخبرة الثورية لكومونة باريس.
وفي آخر مقدمة للطبعة الألمانية الجديدة من "البيان الشيوعي"، والتي تحمل توقيع المؤلفين: ماركس وانجلز، بتاريخ 24 كانون الثاني 1872 يقول المؤلفان إن برنامج البيان الشيوعي "قد عفا الزمن على بعض تفاصيله". ويضيفان: "لقد أثبتت الكومونة شيئاً واحداً، على وجه الخصوص، وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع، ببساطة، أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة".
وهذه الفقرة الأخيرة اقتبسها المؤلفان من كتاب ماركس (الحرب الأهلية في فرنسا). وهكذا اعتبر ماركس وانجلز أحد الدروس الرئيسية لكومونة باريس يتمتع بأهمية عظمى حملتهما على ادخاله كتصحيح لـ (البيان الشيوعي).
****
تتمثّل أسباب ومقدمات الحركة الاحتجاجية بالأزمة الاجتماعية العميقة ومآسيها التي تطحن رحاها الملايين. ومازالت عوامل اندلاعها، بما فيها انتفاضة تشرين 2019، قائمة، وقد أضيفت اليها تداعيات الأزمة المالية، وشحة عائدات تصدير النفط، فضلا عما سببته الاجراءات الوقائية الضرورية للتصدي لجائحة كورونا من صعوبات جدية لملايين الكادحين، وما يتلمسه المواطنون من غياب للعدالة في التعيينات، واستمرار سيادة نهج المحاصصة واستحواذ الكتل المتنفذة، وشيوع الفساد، ناهيكم عن المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية المستعصية.. على هذا النحو الدقيق والمكثف شخص التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللحنة المركزية لحزبنا المنعقد في الفترة من 4 – 7 حزيران 2020 مقدمات وأسباب الانتفاضة.
لقد أصبح الحراك، بعد اندلاع انتفاضة تشرين خصوصا، حقيقة واقعة حيث انخرط فيه الملايين من المواطنين في سائر أرجاء البلاد، معبرين عن أشكال مختلفة من السخط والغضب والاحتجاج.
وبينما تجلت في انتفاضة تشرين الهوية الوطنية التي جسدها شعار الانتفاضة الرئيسي "نريد وطن"، مثّلت سلمية التظاهرات، وسلوك المتظاهرين المنضبط والمتحرر، حيث تجسدت أرقى سجايا الشخصية العراقية، الطابع المدني للاحتجاج.
وعلى الرغم من ميل بعض قوى الحركة الاحتجاجية الى تكريس النزعة العدمية، وازدراء وتهميش دور الأحزاب والقوى المنظمة على نحو يشوه طبيعة الحراك، ويجرده من القيادة الواعية الضرورية، فان الحراك الاحتجاجي تمكن، في مجرى استمراريته، وخصوصا بعد اندلاع انتفاضة تشرين، من التخلص من كثير من المظاهر السلبية، بل إن بعض الجهات والأطراف داخل الحركة الاحتجاجية بدأت تدرك أهمية التنسيق والعمل المشترك، وهو تطور جدير بالتأمل، يدفع الى الرهان على امكانية أن تتخلص الحركة من الجهود االمشتتة، وأن تكون لها قيادة واضحة.
ومهما يكن من أمر المواقف الملتبسة والمتنافرة والمترددة، والمائعة أحياناً، وتلك التي تقدّس العفوية وتجسّد النزعات الطفولية الانعزالية، فان أحد أهم الدروس المستقاة من واقع الانتفاضة يشير الى أنه عندما تتحرك الجماهير موحدة تتوفر امكانيات لتحقيق نتائج كبرى، وهو ما تجلى، من بين أمور أخرى، في اسقاط حكومة عادل عبد المهدي.
وقد اتسم الحراك، الذي كسر حواجز اجتماعية وفكرية وسلوكية، بالقدرة على استقطاب قوى اجتماعية واسعة أصبح حضورها الفاعل ظاهرة جلية في مسار المظاهرات. وكانت مشاركة الشباب والنساء والمثقفين، الذين حطموا جدار الخوف وحولوا التيار الشعبي الى تيار جارف، ذات مغزى عميق بالنسبة لآفاق الكفاح وتعميق وعي الجماهير الثوري التنويري.
فتيان "القمصان البيض"
وكانت مشاركة الشباب، والطلاب على وجه الخصوص، سمة مميزة من سمات الانتفاضة، ومؤشرا على رفض شعبي لسياسات الحكمات المتعاقبة. فقد تحققت في مجرى الانتفاضة أوسع مشاركة للطلبة منذ عقود في فعاليات الاحتجاج الجماهيري، بعد أن كان هذا الحراك شبه منسي في الحياة السياسية منذ زمن طويل. وأعطت المشاركة الطلابية زخما كبيرا لحركة الاحتجاج وساعدت في اخراجها مما أريد لها من انحدار نحو العزلة، وما وجه لها من اتهامات بالتآمر من جانب أحزاب السلطة وقنواتها الاعلامية.
ولم تكن الحكومة تتوقع هذه المشاركة الواسعة لأصحاب "القمصان البيض"، وهو الأمر الذي دفع رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الى التحذير من "استغلال" هذه الشريحة، وأمر بأن يكون الدوام كاملاً في المدارس والجامعات (فضلا عن مؤسسات الدولة)، متوعداً المتسببين بتعطيل الدوام بإجراءات عقابية شديدة.
وعلى وقع هذه التهديدات أعلنت نقابة المعلمين في بيان لها عن بدء الاضراب في المدارس لأيام قابلة للتمديد، تعبيراً عن التضامن مع المتظاهرين، وتصعيد الضغوط على الحكومة للإسراع في تلبية مطالب المحتجين، مجسدة الموقف الوطني المشهود للمعلمين. ومما له دلالة بليغة أن موقف المعلمين هذا جاء منسجما ومكملا لمواقف النقابات والمنظمات المهنية التي شاركت في الاحتجاج باعتبارها ممثلة لقطاعاتها، مثل نقابات العمال ونقابة المحامين، واتحادات مهنية أخرى. وكان هذا الخيار الحاسم خيارا متوقعا، كشف عن احساس رفيع بالمسؤولية الوطنية.
أيقونة الانتفاضة
ولعل المثال الأكثر تألقا في انتفاضة تشرين كان المرأة العراقية، التي لعبت دورا قياديا غير معتاد في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري بشكل تقليدي، فتحولت الى أيقونة للانتفاضة حقا. وبدا حضور المرأة طاغيا في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي. ولا ريب أن هذه المشاركة المميزة ليست ظاهرة جديدة. فمازالت ماثلة في الذاكرة تلك اللحظات المفصلية، حيث أسقطت المظاهرات النسوية الحاشدة عام 2003 محاولة القوى والأحزاب التقليدية تغيير قانون الأحوال الشخصية واستبداله بقانون آخر يستند الى تشريعات طائفية.
وكان بوسع المرء أن يرى نساء من مختلف الأجيال والفئات الاجتماعية، ممن يقدم سلوكهن نموذجا للوعي الحضاري المتمثل بالاستعداد للمشاركة، من تقديم الطعام وأعمال الطبابة حتى حملات تنظيف الساحات. كل ذلك في خضم أجواء تسودها روح الانتماء والتكافل والوطنية، اذ لم تشهد ساحات الاعتصام حالات تحرش، وهو ما مثّل دلالة على السلوك القائم على احترام المرأة وتقدير دورها في الانتفاضة.
وليس بوسع المرء أن ينسى تلك القصص المذهلة لنساء وشابات جسدن المعاني الأخلاقية الرفيعة والقيم الانسانية السامية، التي أضاءت ساحة التحرير في بغداد، والحبوبي في الناصرية، والبحرية في البصرة، والصدرين في النجف، وسواها من سوح الاحتجاج في سائر المحافظات، وقد تحولت الى وطن يتسع للجميع.
دور ريادي للمثقفين
أما المثقفون فجسدوا، بحق، كونهم حملة مشاعل التنوير والوعي بضرورة التغيير. فقد عكس التحول العاصف في الاطار الثقافي، رغم كل التباساته وانعطافاته، آفاق نهضة ثقافية يمكن، اذا ما توفرت لها الشروط الصحية، أن تعيد الاعتبار للعقلانية، وتخلق فضاء ازدهار الثقافة الوطنية التقدمية.
معلوم أن الدولة تستخدم القمع والآيديولوجيا والمال لادامة سلطتها. وتسعى هذه السلطة، المناهضة للديمقراطية الحقيقية، والتي يقوم نظامها على الوحدانية واعادة انتاج التجهيل، الى تحويل دور المعرفة الى برهان على "شرعية" الاستبداد.
وعلى الرغم من التباين (الطبيعي) في الآراء بشأن انخراط النخب الثقافية في الحركة الاحتجاجية، والتعقيدات المتشابكة التي تواجه دور وموقف المثقف في الحركة الاجتماعية، ومحالة قوى الثورة المضادة اشاعة اليأس في صفوف المثقفين، ولا جدوى مشاركتهم في الاحتجاج، وبالتالي عزلهم عن الأحداث والتحولات الاجتماعية، على الرغم من كل ذلك، كشفت تجربة انتفاضة تشرين عن الدور الريادي التنويري للمثقفين. وسرعان ما أزال المثقفون، بمشاركتهم الملهمة في الانتفاضة، وهم غيابهم وانكفائهم وعزلتهم ويأسهم. وقد تميزت، في سياق الحراك الاجتماعي، مساهمة واضحة ومتسعة للمثقفين الذين تصدروا المشهد وكانوا في قلب الحدث. ووجدنا في الحركة الاحتجاجية ملامح اجابات على أسئلة ملحة حول العلاقة بين الموقف السياسي والاجتماعي للمثقف وابداعه الجمالي.
وهكذا فان من بين أهم سمات انتفاضة تشرين تبرز سمة انخراط النخب الثقافية في هذه الانتفاضة بقوة وفاعلية، ومسعى المثقفين الحثيث لترشيد الظاهرة الاحتجاجية، والمشاركة النشيطة في بلورة شعاراتها، واشاعة الوعي بأهمية وضرورة التغيير.
هكذا، اذن، يغدو جليا، عبر تكامل عناصر الأزمة الاجتماعية المتفاقمة من ناحية، وتعاظم حركة الجماهير المنتفضة والمحتجة من ناحية ثانية، أن لا مخرج من النفق المظلم الاّ عبر تغيير ميزان القوى السياسي والاجتماعي. وتؤكد عناصر الأزمة الاجتماعية، مرة إثر أخرى، بأن النظام السياسي الراهن، المكبل بأغلال المحاصصة، عاجز عن تقديم الحلول للمعضلات التي يعاني منها الملايين، وانقاذ البلاد من محنتها المروعة.
لا سبيل الى ذلك سوى التغيير، وهنا، على وجه التحديد، يتجلى الدور الحاسم للجماهير، وتتأكد حقيقة أن تعاظم السخط يشكل مقدمة أساسية للتغيير المنشود، وهو ما يتعين أن تستثمره قوى التغيير.. الجماهير هي التي تضيء هذا السخط المتراكم، وتطلق شرارته، وتحوّله الى فعل اقتحامي واعٍ، وسعي الى الخلاص من راهن يستقتل في تأبيده النظام القديم.
****
من معاناة الملايين المريرة وواقعهم المأساوي، تأتي عدالة المطالبة بالتغيير في اتجاه اقامة الدولة المدنية. ولا ريب أن مثل هذا التغيير، في ظل توازن سياسي واجتماعي مختل يميل لصالح قوى تأبيد الراهن، لا يمكن أن يتم الا عبر قوى تسعى اليه، لا قوى حاكمة تقف بوجهه، وتضع كل العراقيل أمامه دفاعا عن سلطتها وامتيازاتها ووجودها.
وبالتالي فان على القوى الساعية الى اقامة الدولة المدنية أن تدرك، أولا، أن مهمة التغيير المعقدة لا يمكن أن تنجز الا عبر حركة شعبية قادرة على احداث مثل هذا التغيير من خلال شعارات وبرامج واقعية، وأساليب عمل فاعلة، وتنسيق عالي المستوى بين سائر القوى ذات المصلحة الحقيقية في التغيير.
ومن المؤكد أن تحقيق أهداف الانتفاضة، والحركة الاحتجاجية عموماً، يستلزم، كما أوضح التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية لحزبنا المنعقد في الفترة من 4 – 7 حزيران 2020، عن حق "مراجعة مسؤولة لمسارها واستخلاص العبر والدروس منها. وقد بات تبلور المواقف والمطالب المشتركة، وتحقيق نوع من القيادة الجماعية، أمراً ملحاً لرسم وتدقيق التوجهات اللاحقة، وادامة زخم الحركة الاحتجاجية". وأضاء التقرير السياسي حقيقة أنه "يكتسب أهمية خاصة في الظرف الحالي نهج تحويل المطالب الشعبية الملحة ومشاعر الاستياء والغضب لدى فئات وشرائح متنامية من شعبنا، الى حراك جماهيري سلمي متعاظم، يجري الاستناد اليه لتحقيق أهداف الانتفاضة، ودحر نظام الممحاصصة والفساد، وإحداث التغيير المنشود بفرض ارادة الشعب والانتقال الى دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية".
وعي مدني جديد
لقد أسهم الحراك، والانتفاضة على وجه الخصوص، في تأسيس وعي مدني ديمقراطي جديد يتبنى فكرة العدالة الاجتماعية على نطاق أوسع، وتعميق وعي ألوف مؤلفة جديدة من الشباب والنساء، على وجه التحديد، ممن راحوا يتعلمون دروس التمرين الكفاحي الجديد، واغناء خبرتهم الفكرية والسياسية الميدانية.
ويمكن القول إن الانتفاضة شكلت حدثاً نوعياً ذا أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية، هزّ أركان النظام السياسي القائم على المحاصصة، وأدّى الى بروز حقائق وظواهر جديدة في اللوحة السياسية والاجتماعية. فقد بات مفهوم الدولة المدنية أكثر تداولا، بينما تقدم موضوع التخلي عن نظام المحاصصة في المشهد السياسي. وتبددت أوهام قوى سياسية متنفذة ومراهناتها، في ظل ظروف الكورونا القاسية، على "تراجع" و"تعب" المتظاهرين ونفاد صبرهم وسكوت الشارع، وبالتالي "تبخر" هذه "الفورة" الجماهيرية العاطفية العابرة.
وكان إحياء عشرات الآلاف في بغداد والمحافظات، الخميس الماضي، الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة تشرين صورة ساطعة للاستذكار والاستمرار.
وعلى الرغم من أن ّساحات الاحتجاج شهدت، كما شخصت وثائق حزبنا، تغيرات جلية، إذ تبدلت أولويات بعض القوى التي كانت داعمة للتظاهر، فيما دخلت قوى جديدة بدوافع وأجندات لا تتوافق، بالضرورة، مع الأهداف المعلنة في ساحات التظاهر والاعتصام، فان الوجهة العامة للحركة الاحتجاجية ماتزال تحتفظ بمنطلقاتها وأساليبها وأهدافها.
الشيوعيون في قلب المعركة
وفي سياق تعاظم الحراك والانتفاضة، كانت لحزبنا، كما أوردت افتتاحية "طريق الشعب" (24 آب 2020)، تضحياته الجسام الغالية، وتعرض العديد من رفيقاته ورفاقه، في بغداد ومحافظات أخرى، الى الرصاص والخطف والاغتيال، وقائمة شهدائه معروفة ... وقدّم الحزب مختلف أشكال الدعم المادي والمعنوي السياسي للمنتفضين وساحات احتجاجهم، مؤكداً على ضمان الوجهة السلمية للانتفاضة، ودعم وتطوير صيغ العمل المشترك، ومعالجة الثغرات في التنسيق والأطر القيادية، بينما حذر من القوى المعرقلة الساعية الى تشويه الانتفاضة واضعافها تمهيدا لإجهاضها.
وأكدت سائر وثائق حزبنا، التي أضاءت الانتفاضة، على أن الحزب مارس تأثيره السياسي وجسد نشاطه الاعلامي ودوره الميداني في ساحات الاحتجاج والاعتصام.
أما هؤلاء الذين يحملون المشاعل.. وبأياديهم تخفق الرايات.. ومن عيونهم يتطاير الشرر.. فهم فتيات وفتيان البلاد الذين تصدح أصواتهم، لتكون الرد الحقيقي على من يدّعون "غياب" الشباب.
إن المرء ليشعر، وهو يصغي الى هتافاتهم وأهازيجهم، التي كسرت رغبة تقديس وتأبيد الراهن، بأنه مفعم بالرجاء في أن تمضي هذه الجموع في دروب الحرية.. ومن الحق والفخر القول إن مشاركتنا، نحن الشيوعيين، في طليعة القوى المدنية، تشكل الضمانة الأساسية لاستمرار الحركة الاحتجاجية وتطوير أساليبها وأشكالها وآفاقها.
دروس خبرة غنية
وما دمنا في سياق تحليل الانتفاضة وآفاقها، فلابد أن نبدأ، أولا، بدروس هذا الحدث البليغة، واستخلاصها من هذه التجربة، الصيرورة المتفاعلة، المنفتحة على آفاق، والتي تحتاج، على الدوام، الى اعادة نظر وتقييم، وإغناء وتطوير للموقف الواقعي في الظرف الملموس. فقد كانت الانتفاضة تعبيراً عن حاجات حقيقية للناس، أخرجها الحراك الى النور.
ويمكن القول إن هناك، الآن، حراكاً على صعيد المفاهيم والسلوكيات السياسية والمجتمعية. فانكفاء الحديث عن المكونات لصالح تقدم المحتوى الاجتماعي الى أمام يجسد واقعاً جديداً يقلق الأحزاب القائمة على أساس الطائفية السياسية. وبوسعنا أن نرى نوعا من اصطفاف جديد يشير طابعه العام الى أن قيماً مدنية راحت تشق طريقها وسط صعاب وتعقيدات الصراع السياسي والاجتماعي المعروفة.
ومن ناحية أخرى تكمن قوة الاحتجاج في سلميته، التي يريد البعض تجريده منها. ولا ريب أن الأساس السلمي للاحتجاج بحاجة الى قوى اجتماعية تسنده، وليس الاستجابة لاستفزازات القوى المناهضة للاحتجاج، عبر الانسحاب من الساحات كما يدعو بعض المدنيين، الذين يتخذون مواقف الجزع والانكفاء الانعزالية، بدلا من مواصلة الضغوط وتحشيد القوى وتعزيز الاتجاه المدني المستقل وقوة تأثيره في المشهد السياسي والاجتماعي.
إن لدى حزبنا تجربة غنية، ومريرة أيضاً، في التحالفات لابد من العودة الى دروسها البليغة، واعادة النظر والتقييم لاستخلاص العبر ورسم المواقف السياسية المدروسة وفقا للظرف الملموس، آخذين بالحسبان أن التحالف ينطوي، بالضرورة، على تناقض، وأنه اذا كان الحراك صيرورة، فانّ الصراع كذلك أيضاً.
لقد فنّد الحراك الكثير من التقديرات والتوقعات التي كانت تستبعد امكانية استمرار الغضب الشعبي، وبصورة سلمية منسجمة مع منظومة الحريات والدستور، فقد ظل الحراك محافظاً على طبيعته السلمية، وكانت انتفاضة تشرين دليلاً على هذه الحقيقة. ولم يوّفر الحراك للقوى، التي ظلت تسعى الى تحجيمه واجهاضه، أي مبرر لتحقيق مآربها، بل اتجه الى تطويق محاولات السلطة ومنع انتشار حصارها واجراءاتها المعيقة للحراك.
وبات موضوع السلمية منهجاً وهدفاً، بحيث صار أساسا للانتقال الى أشكال أخرى من الاحتجاج. وأزالت الانتفاضة تلك المخاوف التي تثار حول التصعيد في الحراك، والتي تزعم أن الأشكال الجديدة، وبينها الاعتصام، بل وحتى العصيان المدني، قد تهدد السلم الأهلي وتؤدي الى حالة من الفوضى.
وأثبتت الانتفاضة أنّ شكل الاحتجاج كان حالة متحركة نشأت في سياقها قوة جاذبة لأوساط اجتماعية أوسع كانت مترددة في مسألة المشاركة في الاحتجاجات حتى رأينا الملايين وهم ينزلون الى الشوارع في أفواج هادرة. ولعلّ من بين أهم دروس الانتفاضة أنها عكست ورسخّت المطالب ذات الطابع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وجعلتها في قلب المشهد السياسي، مزيحةً الانتماءات الطائفية والعرقية، حتى أضحى الحراك يمارس، الآن، دوراً أعظم في صياغة المشهد السياسي.
مقتحمو السماء هم، وحدهم، القادرون على أن يحلموا، وأن يشعروا باقتراب الأمل، وهم يعودون الى الينابيع.. هم، وحدهم، من يرون ضياء ذلك النجم البعيد، ويسيرون، في هديه، نحو ضفاف الحرية.. وقد بات جلياً، اليوم، وبعد اندلاع انتفاضة تشرين، أن هذا المدّ الاقتحامي لن يتراجع، وأن حصون الظلام ستتهاوى يوما.. رحلت أيام الخوف واليأس.. وراحت نواقيس الغضب تقرع، والضحايا هبّوا سائرين في مواكب الحرية.. وهذه البلاد التي يريدون لها أن تبقى في مستنقع الخنوع رفعت أشرعة التحدي.. وراحت تقتحم متاريس الجائرين..
حتى عندما يقتلون المنشدين، تظل هذه البلاد تغني، لأنها محكومة بالأمل.. إنها قيامة العراق!
(*) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
ملاحظة: نٌشرت هذه المادة في ثلاثة أجزاء وصدرت في صحيفة "طريق الشعب" وذلك تزامناً مع الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة انتفاضة العراق. وتقوم النداء بنشرها بعد الاتفاق مع الكاتب ومساهمةً منها في تسليط الضوء على الوضع السياسي في العراق، منذ انتفاضة ١ أكتوبر وحتّى يومنا هذا.