"كارتل" الرأسمالية المتوحشة وقدرة ممداني على التحدي

يُخيَّل للمراقب أن المرشح الديمقراطي، زهران ممداني، لا يتنافس في سباق الانتخابات لشغل منصب عمدة نيويورك مع مرشح آخر، بل يبدو وكأنه يتنافس مع "كارتل" تشكل من أقطاب الرأسمالية الأميركية المتوحشة الذين اتفقوا على مواجهته، ومواجهة الفكرة المتمثلة بمواقفه، بكافة السبل. كذلك يبدو أنه يتنافس مع رئيس الولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب ذاته، بسبب عدم توفير ترامب أي إطلالة إعلامية، من دون أن يكيل الاتهامات والتهديدات للرجل، محذّراً من خطورة انتخاب "اشتراكي" على مستقبل المدينة. وبغض النظر عن الدافع العنصري الذي قد يكون أدى بترامب للهجوم المتواصل عليه بسبب أصوله، إلا أن ثمة دوافع أيديولوجيةٍ؛ سببها ميوله اليسارية، ودوافع أخرى شخصيةٍ؛ تتعلق بقدرته على تحدي ترامب والطبقة السياسية الحاكمة، علاوة على انتقاده الحرب الإسرائيلية على غزة، وهو ما بات من النادر أن يجرؤ على فعله كثيرون. وإذ يأتي ترشُّحه في ذروة صعود ترامب، رجلاً قوياً قادراً على فرض سياساته داخل البلاد وخارجها، فإن ظهور ممداني في هذا الوقت يُعدُّ تنغيصاً لهذا الصعود الدراماتيكي الذي لا سقف له، وربما فاتحاً لظهور يسار يأخذ هموم الطبقات الدنيا في حسبانه، وهذا كابوس آخر لترامب وطبقة الرأسماليين الذين أخذوا يحشدون ضده.

ففي ظل تصدُّر زهران ممداني السباق الانتخابي المحموم لشغل منصب عمدة نيويورك، استفاق مليارديرات المدينة وبقية المدن الأميركية على حقيقة أن كابوس فوز ممداني قد يصبح حقيقة، بفضل تقدمه في هذا السباق واستطلاعات الرأي، وامكانية التغلب على خصومة في اقتراع الانتخابات الذي سيجرى، في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. لذلك توافق هؤلاء الأثرياء على إطلاق حملة شرسة، وصلت إلى حد الهستيريا والجنون، والتي يتعجب المراقبون والمتابعون من الدوافع التي جعلت القائمين بها يتفقون على تشكيل جبهة موحدة مكونة من 26 مليارديراً ينتمون لقطاعات الإعلام والتكنولوجيا والعقارات والبنوك والرياضة، بهذه الطريقة وهذه السرعة، ويحشدون قواهم ويجمعون أموالهم التي وصلت إلى 22 مليون دولار، وفق تحقيق أجرته مجلة "فوربس الأميركية"، ونشرته في 24 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. وقد ردَّ ممداني على هذه الحملة بالقول: "ضخ المليارديرات ملايين الدولارات في هذا السباق لأنهم يعتبرون إننا نمثل تهديداً وجودياً لهم، أريد أن أعترف بشيء: هم على حق".

وبدأ القلق لدى ترامب والطبقة السياسية الحاكمة والأثرياء من الرأسمالية الأميركية المتوحشة، منذ لحظة إعلان فوز ممداني الشاب بالترشيح في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك، على منافسه أندرو كومو البالغ من العمر 67 سنة، والذي كلفته حملته الانتخابية ملايين الدولارات. وإذ تعد هذه الواقعة أمراً فارقاً بسبب قدرة شاب مهاجرٍ، لا يتجاوز عمره 34 سنة، وينحدر من الطبقات المتوسطة، على هزيمة متموِّلٍ من أصحاب الباع الطويل في السياسة والتنافس الانتخابي، فإن خطابه الذي يحلو للبعض تصنيفه شعبوياً يسارياً، جاء لينافس خطاب ترامب الشعبوي اليميني. أي أنه أحسَنَ استخدام أسلحة منافسيه للبروز، وطرح قضايا تُعدُّ محرّمةً، منها، إضافة إلى الطرح الشعبوي والغريب المطالب بإلغاء الشرطة، نيته العمل على تخصيص حافلات نقل مجانية للعموم وتعليم مجاني ورعاية مجانية للأطفال. كما طرح فكرة إنشاء متاجر حكومية للحد من غلاء السلع الغذائية، وتأجيل تسديد القروض وتجهيز المباني الحكومية الفارغة لإيواء المشردين ومحدودي الدخل، ونادى بفصل المال عن السياسة، إضافة إلى الطرح الجاذب وهو فرض ضرائب أكثر على الأثرياء وكبار المتمولين العقاريين، وتقليلها عن متوسطي ومحدودي الدخل، أي عكس ما يسعى ترامب إليه من تخفيف الضرائب عن الأثرياء، وزيادتها على المسحوقين.

وفي حمى حرب ترامب على الهجرة والمهاجرين، والتهديد بترحيل أعدادٍ كبيرة منهم، واحتجاز آخرين في ظروف غير إنسانية، برز نجم ممداني المسلم، والمنحدر من عائلة مهاجرة ذات أصول هندية وأوغندية، وصاحب الخطاب الصدامي تجاه الطبقة السياسية والطبقات المسيطرة. وهي جزئية قد تساهم في تخفيف أثر الخطاب المعادي للمهاجرين، نتيجة شعبية هذا المرشح التي بدأت تتنامى في صفوف الفقراء وطلاب الجامعات والجاليات المهاجرة وبعض النقابات. ولم يكن ينقص الكابوس لكي يجثم بثقله أكثر على صدر ترامب ومؤيديه، سوى إعلان النائب اليساري العنيد، بيرني ساندرس، تأييده ممداني، لما لذلك من رمزية وقدرة على تحشيد مزيد من المؤيدين للرجل، في منطقة تتمتع بأغلبية ناخبين ذوي توجه ديمقراطي. وللاستفادة من هذه الميزة، حشَدَ ممداني وفريقه الانتخابي جيشاً من المتطوعين بلغ عددهم 50 ألفاً، قرعوا أبواب المنازل في نيويورك في سياق حملته الانتخابية، وجالوا في أنحائها لنشر برنامجه الانتخابي وتعريف الناس بتوجهاته الشعبية.

لا تأتي الخشية لدى ترامب وفريقه والطبقات المسيطرة، من صعود ممداني بسبب إمكانية فوزه بمنصب العمدة فحسب، فلأن هؤلاء لديهم القدرة على تحسُّس الخطر مهما بلغ من الضآلة، لذلك تأتي خشيتهم من التأثير الحالي والمستقبلي الذي يمكن أن يحدثه خطابه المغاير على فئة الشباب وجمهور الناخبين. فبروز مرشح يساري، يناهض الطبقات المسيطرة، ويعلن جهاراً رفضه التمايز الطبقي وحرب الإبادة على غزة، ويهدد رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالاعتقال إذا دخل نيويورك، قد يصبح له تأثير على سياسات الحزب الديمقراطي الذي يمكن له أن يتعلم من ممداني، كما قال النائب اليساري بيرني ساندرز في مقالٍ له في الغارديان، في 27 يونيو/ حزيران الماضي. كما يمكن أن ينتقل تأثيره إلى القواعد الشعبية والناخبين في التيارات الأخرى ومزاج الشباب والمهمشين الذين يمكن أن يزيد صعود ممداني الوعي في أوساطهم، وأن يضخ دماء تحدي السياسات المفروضة في شرايينهم ليزيد انخراطهم في السياسة. كما يمكن أن تكون له بصمة في ما بات يُطلق عليه "سياسة غزة"، التي تركز على مواجهة الدعاية الإسرائيلية، وتربط النضال المطلبي الداخلي بالقضايا الكبرى، ومنها الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة.

في ظل هذه المعطيات، ونظراً لكل هذا التحدي الذي يشكله ممداني، وقدرته على الاستمرار في ذلك، لم يكن مستغرباً أن يدشن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاتهامات والتهديدات لممداني على منصته "تروث سوشيال" عندما صنفه "الشيوعي الخطر"، والتي استكملها خلال عدد من مؤتمراته الصحافية ولقاءاته. وبينما هدد ترامب باعتقاله وتجريده من الجنسية الأميركية وترحيله، دخلت المتحدثة باسم البيت الأبيض، على خط الاتهامات فصنفته شيوعياً، وقالت إنه يروج لمعاداة السامية ويدعم حماس ويريد إزالة إسرائيل، ولم تنسَ التركيز على كرهه طبقة الأثرياء، ليؤكد ذلك على التوجه والسياسة المتبعة الهادفة لإيقاف صعود الرجل. ومن الطبيعي أن تقود هذه التهديدات والاتهامات بعض الموتورين لتهديده بالقتل؛ إذ تلقى مكتبه، بدءاً من مارس/ آذار الماضي، رسائل صوتية تهدد بقتل عائلته، وقتله عن طريق تفجير سيارته، وهنا المفارقة، إذ إنه لا يملك سيارة.

وعلى الرغم من ذلك يبقى السؤال: "هل يمكن لممداني أن يفوز؟". لم تخفض التهديدات التي تلقاها من شعبيته بل زادتها، وساعدت في إحداث رد فعل جماهيري معاكس على الطبقة السياسية التي تطلقها فزادت من التفاف الطبقات الشعبية حوله، وهو الذي تبدى في استطلاعات الرأي الجديدة التي رجحت فوزه، وهذا ما يعدُّ تحدّياً لترامب والطبقة الرأسمالية المتوحشة ومؤسسات الحكم. وبغض النظر عن ذلك، لاقت برامجه الشعبية استحساناً من كثيرين، كما أن شخصيته الجاذبة تعد عاملاً مساعداً في زيادة المؤيدين. لكن الأهم هو أن منافسيه، وأحدهم أندرو كومو، المهزوم الذي ينوي الترشح مستقلاً، وعمدة المدينة الحالي، إيريك آدمز، لديهما قضايا تتعلق بالتحرش الجنسي والفساد. وقد تحالف هؤلاء ضده مع الجمهوريين وكارتل رؤوس المال وبعض اليهود، في حلف المتوجسين من التغيير، الذي بات يتمثَّل ليس بممداني وحده، بل بتيارٍ ظهر على خلفية ترشيحه، وقد يتسع ويتعمق إن فاز.

* * *