"كورونا في نظريتين ردّاً على نظريتين في كورونا"


لقد كُتب الكثير حتى اللحظة عن هذا الوباء الفتّاك الذي أصاب البشرية جمعاء، ودرجت كلّ التحليلات ضمن إطار مفهوم "الحرب العالمية ضد كورونا" في تسويق مبرمج لنظريتين كانتا محط إختلاف بين تلك التحليلات: النظرية الأولى تقول إن كورونا وباء طبيعي (نتاج الطبيعة)، فيما النظرية الأخرى انطوت تحت شعار "نظرية المؤامرة " وأن هذا الوباء أُنتج مخبرياً بغض النظر عن تحديد المنتج الحقيقي والمسرب الحقيقي. في هذا الإطار، كان الإتجاه الحقيقي هو لوضع العالم بأسره في حالة حرب عالمية ضد وباء كورونا والعمل بتعاضد تام بين كلّ الدول والحكومات لمواجهة هذا العدو والانتصار عليه بعدما انتهى مفعول " سلاح الإرهاب العالمي".


من هنا، إستخدمت الدوائر الإمبريالية العالمية وحليفاتها كلّ الوسائل وبشكل خاص وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة ووسائل التواصل الإجتماعي) للتركيز على قوة وخطورة هذا العدو (وباء كورونا) باتجاه إعلان حلف عالمي في حرب عالمية ضده ولكلٍّ من الشعوب اسلوبه الخاص في المواجهة ولكن ضمن استراتيجية حرب واحدة انطوت تحتها كلّ الدول والحكومات من المشرق الى المغرب ومن الشمال الى الجنوب والتي تقضي باعتماد اسلوب "الحجر الصحي" على شعوبها كاملة واعتماد اساليب الوقاية والتعبئة العامة وما يترتب على ذلك من:
- تحديد أطر وأساليب عيش ومعيشة هذه الشعوب.
- تحديد أطر تحركات وحركات الجماهير ومحاولة تأطيرها وتنظيمها.
- تحديد أطر المواصلات والاتصالات.
- تحديد أطر السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية.
إن هذه الإستراتيجية الحربية ليست من أجل الدفاع عن الشعوب وحماية مصالحها، لا بل هي فقط من أجل السماح لهذا النظام العالمي المسيطر حالياً على كلّ مقدرات وطاقات العالم أجمع بإيجاد حل يناسبه للخروج من الازمة الإقتصادية الحالية والتي هي في الحقيقة أزمة هذا النظام بذاته، حيث تعود جذورها إلى بدايات القرن الماضي والتي تفاقمت على مرِّ السنين على شكل أزمات مرحلية سمحت الظروف الموضوعية آنذاك لهذا النظام بالحفاظ على ذاته والخروج جزئياً من هذه الأزمات عبر حلول مستعجلة كانت تشكل في الأفق القريب حلاً له، ولكن في الأفق البعيد كانت تشكّل تراكماً كمياً ونوعياً لشروط أدّت في كلّ حقبة تاريخية من خلق أزمات مستجدة انتهى الأمر بهذا النظام العالمي إلى مواجهة الأزمة الحالية والتي تشكّل أكبر وأعمق الأزمات التي مرَّ بها منذ تكوّنه
إنها وبدون أدنى شك، أزمة النظام الرأسمالي الاحتكاري الليبرالي المتداخلة مع سيطرة الطغمة المالية المصرفية على كلّ سياسات العالم الإقتصادية، مما أدّى وبشكل جلي لإظهار توحّش هذا النظام وطمعه في استغلال شعوب العالم كافة وما تملكه من ثروات مادية وطاقات بشرية وقدرات إنتاجية لتكون هذه الثروات بأيدي حفنة قليلة من الرأسماليين/المصرفيين الذي لا يتجاوز عددهم بعض الأشخاص أو العائلات المتحكّمة بمصير المليارات من البشر القابعين تحت معدل خط الفقر أو ما يعادله.
لا مجال هنا للدخول في التحليل النظري لطبيعة وماهية هذا النظام وجذور أزمته التي هي بإختصار شديد وليدة طبيعية وحتمية لتفاقم التناقضات في ذات هذا النظام وضده بغض النظر عن المسميات أو التسميات التي أطلقت على مرحلته التاريخية الراهنة، أهي مرحلة العولمة أم المرحلة الإمبريالية، حيث أن هذه التسميات لا تشكل سوى عبارات مختلفة في الشكل ولكنها واحدة في المضمون لصفة وحيدة تعبّر عن أعلى درجات التوحّش والبربرية للنظام الرأسمالي وعدم قدرته الذاتية على الإستمرار في وجه الإنتاج الحتمي لنقيضه إلا عبر إعتماد كلّ اشكال الصراع وأساليب الضغط والسيطرة الإقتصادية على دول العالم وسلب ونهب مواردها والتنكيل بشعوبها بأساليب مختلفة تصل إلى حد نشوب الحروب أهلية، إقليمية كانت أم عالمية، فقد لا يختلف إثنان أنه في التاريخ الحديث كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية نتاجاً لأزمة هذا النظام
وها هي اليوم أولى مراحل الحرب العالمية الثالثة. إنها الحرب التي تعاني منها شعوب العالم علّتين، نظاماً عالمياً بشعاً وحشياً وعيشاً ضيقاً ووباءً جامحاً فتّاكاً. إن كورونا هي السلاح الجديد للعدو نفسه، عدو الإنسان والإنسانية جمعاء ذلك النظام الرأسمالي الإمبريالي المتوحّش ومشتقاته.
إن عدم إمكانية استخدام الاسلحة التقليدية والنووية وأنظمة حرب النجوم بسبب موازين القوى العسكرية الحربية العالمية في هذا المجال وما قد تسبّبه هذه الأسلحة من فناءٍ ودمارٍ للبشرية، دفع بإتجاه إستخدام السلاح السبرناتيكي - الإلكتروني كسلاح في الحروب بين الدول وإلى إستخدام السلاح الجرثومي كسلاح ضد الشعوب. فمن هنا كانت كورونا سلاح المرحلة الحالية.
- سلاح المعركة بين قوى سلطة رأس المال الإحتكارية المصرفية المتصارعة داخل النظام نفسه للدفاع عن مكاسبها ومن أجل سيطرة أحداها على الأخرى ضمن مفهوم الصراع على الغنائم.
- سلاح المواجهة بين هذه القوى مجتمعة والقوى العالمية الأخرى (مثل روسيا والصين) التي تحاول إنشاء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، بعيداً عن إعتماد الدولار الاميركي كعملة عالمية إستراتيجية، ليحلَّ محل نظام القطب الواحد الذي فرض سيطرته على العالم لمدة ثلاثة عقود بعد سقوط الإتحاد السوفياتي مع الأخذ بعين الإعتبار فشل ما يسمى "الإتحاد الأوروبي" وعملته اليورو من تمركزه كقوة عالمية جديدة تشكّل القطب الرديف لما كان يُعرف آنذاك بمعسكر أوروبا الشرقية في مواجهة سيطرة الولايات المتحدة الأميركية.
- سلاح المواجهة مع من يشكل عبئاً ثقيلاً على هذا النظام من مسنين وفقراء لا حاجة لهم في مهام المرحلة المقبلة التي يعد لها هذا النظام كأحد أساليب التخفيف من حدة أزمته الذاتية.
- سلاح تنفيذ المخطط القديم لتقليص عدد سكان “الكرة الأرضية" وتحقيق شعار "العيش الرغيد للأغنياء فقط".
- سلاح تدمير الوضع الإقتصادي العالمي عبر إفلاس الكثير من الشركات والمؤسسات والبنوك بغية إعادة ترميم نظام النقد بعيداً عن الأرقام الوهمية وبغية إعادة بناء أطر جديدة تسمح للطغمة المالية من إعادة تنظيم الإقتصاد العالمي والسيطرة عليه بعدما بدأت ملامح الإفلات من قبضتها تتبين أكثر فأكثر.
- سلاح السيطرة الإستخباراتية على شعوب وحكومات العالم بفرض نظام جديد للاتصالات والإجتماعات عبر شبكات الإنترنت المكشوفة لأجهزة المخابرات العالمية.

ولكن إلى جانب كلّ ما تقدّم على القوى الحيّة في العالم أن تستفيد من الظروف التي فرضها وباء كورونا عالمياً حيث أنه شكّل سلاحاً فعّالاً ضد صانعيه كاشفاً عن هراء النظام الرأسمالي وهشاشته وكم هو بعيد عن إنسانية الإنسان وحقوقه. بالطبع، لكلّ حرب أسبابها وأهدافها ونتائجها ولكن، ليس من الحتمي أو الضروري أن تتطابق النتائج مع الأهداف فقد "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" والتاريخ مليء بمثل هذه التجارب ولعلّ أسطعها ومن الأمس القريب حرب العدو الصهيوني على لبنان عام 2006، فرغم معرفة الأسباب والأهداف الحقيقية لهذا العدوان فقد أتت النتائج على عكس ما كان يبتغيه هذا العدو، بل كانت نتائج وخيمة وفاجعة لهيبة آلته العسكرية وطاقاته العدوانية وكما يقال "وعلى الباغي تدور الدوائر".

من هنا نرى أن سلاح كورونا شكّل تقاطعاً بين نظرية "الصدمة" ونظرية "التطوّر المادي للتاريخ".
فكانت كورونا سلاح "الصدمة" الموجّهة الى شعوب العالم كافة لخلق نوع جديد من الذعر والخوف والتشرذّم فاسحاً المجال لهذا النظام من الاستفادة من الوقت المتاح خلال فترة "الصدمة" ليعيد ترتيب مكانته وإيجاد مخرج من أزمته وتمديد استمراريته قبل أن تستيقظ هذه الشعوب من تلك "الصدمة" لتتمكن من استعادة عافيتها وتنظيم إمكانياتها في مواجهته والإنتصار عليه.
كانت كورونا أيضاً سلاح "التحدي" ضد نظرية "التطوّر المادي للتاريخ" بعد فشل وسقوط نظرية الرأسمالية الجديدة "نهاية التاريخ". لقد أكدت ظروف الحرب الحالية أن لا نهاية للتاريخ، وأن التاريخ هو تاريخ صراع الطبقات وتراكم التناقضات في حتمية تاريخية لإنتاج النظام البديل عن ذلك النظام الرأسمالي الإحتكاري المتوحّش المتصارع في أزمات ذاته، إنتاج نظام تحقيق العدالة الإجتماعية وكبح جماح سيطرة الرأسمال على وسائل الانتاج وإطلاق حريات الشعوب في الاستفادة من خيراتها وطاقاتها البشرية والمادية، نظام العيش السعيد للمستضعفين وكل شعوب الارض المضطهدة.
لا مجال هنا للغوص في دهاليز ومتعرّجات تطوّر الأحداث في هذه الحرب الحالية المعلنة صراحة أو ضمنياً (كالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، الصراع الاميركي ضد روسيا، إيران، كوريا الشمالية، فنزويلا...) ولكن الهدف هو تحديد الأسباب الحقيقية وراء تفشي هذا الوباء وتحديد العدو الحقيقي بغض النظر عن النتائج التي ستؤول إليها هذه الحرب وما ستفرزه من سلبيات وإيجابيات على الصعيد العالمي والمحلي. ولكن ما هو مؤكد أنه سينتج عن هذه الحرب ترتيب جديد للعالم، أي نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب مختلف عما هو عليه اليوم ولكن ليس بالضرورة أن يكون لصالح الشعوب المضطهدة إنما قد يفسح المجال لإيجاد علاقات وظروف موضوعية جديدة تسمح بالانتقال إلى مرحلة أفضل من الصراع على طريق تحقيق آمال هذه الشعوب والتخلص من أخطبوط الرأسمالية المتوحشة.

هذا لا يعني أنه يمكننا تجاهل وجود هذا الوباء الجانح الفتاك وما يشكله من خطر على البشرية جمعاء، وما يجب علينا من اتّباع كافّة أشكال وأساليب الوقاية الصحية الشخصية والاجتماعية لا لمواجهة الوباء وحسب، إنما لإضعاف نتائج هذا السلاح وعدم تحقيق الأهداف التي وجد من أجلها.



# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 378
`


نور أبي صالح