عجائب الاشتراكية في الديانة المسيحية!

 
ليؤذّن لي أن أبادر فأصرّح، أن الحديث في هذا الموضوع صعبٌ ومعقّدٌ وشاقٌّ ومتشعّب. فالبحث هنا عن الحقيقة مغامرة سياسية ومتشعّب فكريّاً بحيث يمكن القول بدون حاجة إلى إثبات، يستطيع الإنسان أن يشرب دون أن يعمل، لكنه لا يستطيع أن يأكل دون أن ينتج!

لكننا نرى في معرض الحديث عن "تأكل خبزك بعرق جبينك" أن الذين يعملون وتعرق جباههم كثيراً ما يجوعون... لماذا؟ لأن الذين يأكلون حتى التخمة هم الذين لا يعملون... ولا تعرق جباههم.
والآن.. لا بد لنا من أن نكمل البحث ونتابع باحثين عن الحقيقة من قطرات تاريخية في طوباوية وأعاجيب الاشتراكية لهؤلاء الروّاد الأوائل... القرامطة.
لقد كتب الكثيرون من الكهنة في اشتراكية المسيحيّين الأوائل... في ذلك الزمن لم يكن أحدٌ ممّن آمن يقول: إنه يملك شيئاً من أمواله بل كل شيء مشتركاً بينهم. وكان كل من يملك حقلاً أو أكثر من بيت لا يُقبَل عضواً في الجماعة ما لم يبِع ما يملك ويأتي بثمنه ليكون ملكاً للجماعة.
نذكر على سبيل المثال بعضاً من تلك الوقائع: رجل اسمه يوسف باع حقلاً وأتى بالثمن إلى بطرس الرسول.. فقُبِل عضواً في الجماعة. وآخر وكان اسمه حنانيا، باع حقلاً مما يملك وأتى بثمنه إلى بطرس الذي بادره بالسؤال: لماذا سمحت للشيطان ان يستحوذ على قلبك فاقتطعت جزءاً  من ثمن الحقل... فلمّا سمع حنانيا كلام بطرس وقع على الأرض ميتاً!
إن أمثال هذه الشهادة كثيرة في أعمال الرسل، لكن الذين وضعوا هذه المراجع لم يذكروا أن الفاتيكان قد حرّم الانتماء إلى الاشتراكية.
والآن إليك ببعض الوقائع من تاريخ القرامطة واشتراكيّتهم الأكثر تقدّماً من أعمال الرّسل.
جاء في كتاب تاريخ الفلسفة العربية من تأليف حنا الفاخوري والدكتور خليل الجر ما يلي: "أمّا من الناحية الاجتماعية فسوف نرى أثراً للاسماعيلية في فرقة القرامطة التي تجلّت فيها المبادئ الاسماعيلية بأجلى مظاهرها. وتحققت على يديها أهدافها الاشتراكية". والقرامطة جزء من الدوحة الاسماعيلية ظهرت في جنوبي ما بين النهرين بعد ثورة الزنج سنة 877م.
لكن يجب أن نلاحظ أن الفرع لا يختلف عن الأصل إلّا في بعض المسائل الثانوية بنزعتها الاشتراكية الرامية إلى إحلال العدل والمساواة بين الناس، وقد جاءت تتمة للحركة البابكيّة!
وكم حدّثنا أمين الريحاني في كتيّبه "تحدّر البلشفية" عن القرامطة مبيّناً أن للاشتراكية عندنا جذور تاريخية.
يقول الياس شاكر: إن أفكار الثورة الاشتراكية ليست غريبة عنا، نحن العرب، فلها جذور في تراثنا. وقد أخذ الكثيرون على عاتقهم مهمة نبش تلك الجذور في مواجهة تهمة الأفكار المستورَدة. وانطلاقاً من هذا النبش، نرى أن نتابع ما جاء في كتاب "تاريخ الفلسفة العربية". لقد بدأت ثورة حمدان قرمط في المنطقة الواقعة بين الكوفة والبصرة وكانت منطقة خصبة للثورات.
أنشأ حمدان، وهو أحد دعاة الاسماعيلية، داراً دعاها دار الهجرة يجتمع فيها أتباعه يؤدّون بعض الضرائب منها ضريبة الزكاة تُجبى للإمام المحجوب وضريبة الهجرة لتأمين مصاريف الدار. وانتهى بهم دفع الضرائب إلى جعل ما يملكون ملكاً جماعياً ولم يعد أحد يملك غير سيفه وسلاحه!
والآن، إذا شئنا أن نقارن بين اشتراكية الروّاد المسيحيّين والقرامطة، لرأينا الفرق كبيراً لصالح القرامطة.
لكن لا غنىً عن وقفة متأنيّة مع الريحاني في مقالته حيث يقول: "سقطت أسرة رومانوف وستتبعها أسرة آل عثمان وكل مستبدّ وطاغية! لقد طلعت شمس الديمقراطية في روسيا، ولا ريب عندي أن الشعوب الصغيرة، المظلومة والمضطهدة، ستتحرر وتحيا حياة جديرة بعد هذه الحرب -الحرب العالمية الأولى- والأمم تتمخّض بالثورات وغداً يتحقق أجمل حلم يحلم به انسان، فهلّا نهضنا مثل سائر الشعوب وحققنا هذا الحلم الجميل!
وقال الريحاني في بذور الفلاحين: "البلشفية هي ماركسية متحدّرة من الشرق بتراثها. إن الشرقيّ في روسيا أشعل نار الاشتراكية.
وهنا، أرى ضرورة في تكرار ما قاله الأستاذ الياس شاكر: "أما الريحاني فيظلّ وطنيّاً ديمقراطيّاً لا يرى حرجاً في ضيافة الشيوعيين".
ونضيف نحن: ويبقى الريحاني أحد كبار المناضلين الأوفياء، كما يبقى أحد أكبر المفكّرين الذي أدرك أن الاشتراكية التي يشعّ نورها مع الأوائل والقرامطة كانت بذوراً للفلاحين والعمال وستنبت، من جديد، غداً أو بعد غدٍ، حلماً يحقّق وحقيقة من حقائق حتمية التاريخ!
وفي الختام، أرى من واجبي المبدئي ذكر ما يلي: إن الأحزاب الشيوعية عقدت عدة مؤتمرات بعد ثورة أكتوبر وكانت المسألة الوطنية وتحرر شعوب الشرق محور البحث. وفي احدى هذه المؤتمرات هتف ستالين مخاطباً الشيوعيين الأوروبيين: لا تنسوا الشرق.