إعترافُاتنا العنصرية...


... الماضي سيفُ ذاتهِ، براري من الفيروسات الذكية، وهي ذكية، متحوّلة. الماضي، مخيالُ روايتنا، لا نمتلك تغيير وجهته، هو دائماً في غير شأن، هو في الماضي عنّا، يتركنا لنصنعَ مادتَهُ، يفوتنا، نواجهُ ما فعلَ غداً فحسب...

لا يختار الإنسان أين يكون ما بعد الرحيل، حتّى ولو أوصى بذلك. كوكب الأرض، طبيعتُهُ تُغيِّرُ مساراتِ البشر، هي موجة ثورية تعنفُ، تُبطِئُ وتُمهِل، لا تهدأ بالمعنى المجازي، لا تسكن، دائمة التطوّر، إنّها نظامٌ كونيٌّ، نظامٌ نحن منه، والاحتمالات مساراتٌ جديدة. لا يحتاج المرءُ منّا أن يحوزَ على تخصّصٍ ما، كي يدركَ ما ارتكبنا من جرائم كارثية بحقّ الطبيعة.
كلّما تُغلَقُ صفحةُ جسد، تلتبسُ علينا الأعراق والألوان، كأنّها اعترافاتنا العنصرية. أجسادٌ لا تستقيم بمكان، تسعى، تواصل المنافي، تنزع لسيِّرِ أصحابها. هو الترحال، رواياتٌ كالفيزياء والآثار، تحتاج للإكتشاف، لتلك الحمولات الإنسانية في ذات كلٍّ منّا.

في صُرَرِ الحياة، في اليقظة والمنام، أماكن بأناسها وصخبها، أزمنةٌ بعاديات المساقط، وما ينسربُ عن العَنان، ذلك الفقدان الأزليّ. باكراً تصدح المهود، وباكراً نكبر، نغرق في الضحك، باكراً نذهب بوداعٍ جامد النظرات، أو بلا وداعٍ كالجليد، نجيئُها الدُّنيا بلا خيار، أودُّ انتظاراً بعدما جئتها وعرفتها، أودُّ أن آتي إليها حين تمتلئ بالحُبّ، حين الحُبُّ امتلاء الحواس.

كلّما تمزّق نسيجُ الجسد، هبطت بورصة الوطن، وتداخلت عوامل الخوف القهرية، ذلك الموروث القبيح، التمسرح الشاذ، تلك المدوّنة بعقولٍ ظلامية. فوق مخيال القاتلين، حول بداءة الكلمة، تحت الجلد العاري، تواترٌ لإعدامٍ يُهدِّدُ بالانتحار؛ فضحك الراوي، وسخِرَ من نفسه، لقد غلَبتْ الحكايةُ صاحبَها. غلبَ علينا النعاس أثناء نهاراتٍ غاضبة الحِمَمِ والقذائف، تدهَمُنا حصاراتٌ فكرية، تُحاضرُ فينا حتّى القتل، وما يغضبُ عنّا، بعض تمارُدٍ يستحضر الأرواح، بعض اقتفاءٍ لهزالةٍ طويلةِ النفَس، بضعة شهداء، كيف يُستشهدون كلّ يوم.

نستعيرُ أحاديثَنا وأحداثنا، حدوثنا المتنامي الغرائز والعصبيات، سفكَنا لجماليات الوجود، نُجمِلُ الورعَ بالفسق، لا نُقسِط، لا نعدِل، نرومُ حكايا الهزائم، نطمئن، نركُنُ لمُخلّصٍ سيأتي، لا نفعل ضميراً متصلاً، لا نكون جمعَ مذكرٍ سالمٍ ومؤنث، نَأنسُ لمصائب الآخرين، نغرق في تفاصيل الرهاب، نُغلّبُ سردية النحيب على الهدف والغاية. شهواتٌ فكرية نرميها فوق ملاءات الحياة، نضعط عليها بقوّةٍ.. تنفجر بإشكالية وجودنا في الزّمن الصعب.. زمنِ التوتّر والقلق، زمن فقدان الجاذبية الإجتماعية، زمن إخضاع الذات لآلهة المادة.

مشاهدُ تلو قتلٍ تلو نكباتٍ ونكساتٍ معنوية اجتماعية، نفتح لها أبوانَ العقلِ والروح، نغرق في تضاريسها حتّى الحضيض، حتّى ما بعد الحضيض لأكثرَ من مرّة، لمرّاتٍ بما لا يُحصى، نُغمِضُ فيها على العيون والأفكار، التاريخ والأرض، نطمرها بالتأسّي، بأوهام الخلافة والخلفاء، بعُشّاق رامبو وسوبر برمان والرجل الحديدي، وتماثيل، جورج واشنطن، كريستوف كولومبوس، وكلّ مستعمري بلاد العالَمين، تتساقطُ تحت ضربات المُحتجين.

***

الأنصاب، أولئك المتحرّكون بقياس الأدوار، والوجهة حيث تؤكل الكتف، ولا استبدالَ للأدوار، فالشكل الحيُّ التالي، ينسحبُ على طوابيرَ جوّالة في عالم المال والسياسة والقضاء، في النضال المتعدّدِ المتعارض مع المصلحة الوطنية. ومع ذلك نرى المُصلّين الساجدين، يفتقرون إلى القدوة الذاتية الواقعية، إلى وعي أدوارهم وذواتهم. نتفاءل خيراً، والتفاؤل المُبالغ فيه يعود على أصحابه بالخيبة. التفاؤل المقرون بالفعل الإيجابي، قرين الوعي والعمل، التغيير الذي يمسُّ الحاجات المطلقة العامة، الذي يُعمّق البعدَ الوطنيَّ الإنسانيَّ بامتياز.

توضِحُ طبيعة المجتمعات حقيقةَ وصورةَ تطوّرها أو تأخّرها، وجلّها يحوز على قواعد جمعية مشتركة للذات الحضارية، لذا، هل الإشكالية في الموروث، في المُهيمن الخارجي على الصعد كافة، في الأنموذج الحاكم القوي العادل أم التابع...؟ لا شكّ أن قوى الإستعمار الغربية أجادت بنشر شبكة هيمنتها على دول العالم عموماً، وبأنّها الوريث "الشرعي" بسردية الإخضاع لمنظومة الإمبراطوريات السابقة، وبالأخصّ العامل الديني الإستحواذي، حيث تُرجمت حركة التديّن، وتأثرت بأنماط الهوى الأوروبي الاستعماري، فانكسر الوعاء التراثي الثقافي، لمصلحة الرّغبة الكولونيالية ببعديها السياسي الإقتصادي والثقافي، وخطورة المسألة، تتجلّى حتميتها التاريخية في العقل العربي، والسيرورة المُخضَعة بإرادة الاستبداد، وقضايا الصراعات الدينية حول أغلب المسائل الفقهية، بما يتعدّى الهمَّ الوطني، ويُقزّم حقائق التاريخ الإيجابية، لخلق ثقافة مبتورة، وجهتها التنابذ والتنافر بفكّ البعد القومي، وإسقاطه لصالح التمذهب والتقوقع، لصالح ثقافة هجينة، تمنح المحتل الصهيوني قوميةً دينية تناقض الوجود قاطبة.
لكم نحتاج لإبداع العقل والروح، لإنسانية ننتسب إليها تأسيساً لرؤيةٍ موحّدة، تهتم بقضايانا الوجودية الإنسانية الوطنية.

***
ثمةَ قلوبٌ كبيرةٌ في القلب الصغير، تحطُّ عليه كائناتُ الحُبّ، لأنّهُ ألمي، يكفي من الحُبِّ ما تنوء به الأكوان.. إلى ما لا نهاية. تلك الأحاديث حاجة الحياة، نُمسِكُ بأطرافها، تجذبُنا للسانٍ مثقل الصياغة، تجذبنا لطلاوة حديثٍ فاعمٍ فاغمِ المشاعر، وقّاد الرؤى، نطيرُ، تحطُّ الأرواح في عوالم الأساطير، فيها نستبقُ وجودَنا بملاذاتٍ.. ستكون لنا، تنتظرنا بأعوام.. وسنين تسعى بنا، ندّعي نهرب منها، هي التي تطوينا بهدوءٍ مهما بلغَ صخبُنا، وهي حياةٌ أزليّةٌ تجمع بين طياتها حيواتٍ بلا نهاية. والأشياء الكثيرة الباعثةُ على الحبور والتوجّد، كثيرةُ الصّورِ والذكريات، تمنحنا معناها أبداً.