أنّهُ ثمة واقعٌ هناك ..

هناك، في الحياة وليس العدم. حين وصلت، أدنتُ وصولي، والوجوه والأرصفة والأضواء ليست لي، فرُحتُ أعبرُها بلا هدفٍ، وكُلّي في مِهدافِ الوقت والعيون والقناص. 

 

لهذا القناص وجوهُ القتل والجوع والظمأ والمنافي، والوصول إلى بعض الحياةِ مشقّةٌ جارحة التفاصيل، في ذاتها المتعامقة في ذاتي، ثمة حفّارة تخدش وجه الأرض، أدور في شفراتها اللولبية، وأنا أذهب في التراب، أعلق فيه، في أزمنته السحيقة حتّى تبدّى استقبالاً لكائنات الوجود، وما كان .. ما بعد درسها الكائنات، اكتشافات مذهلة للاستمرار، وهي خزينٌ لصراعاتٍ هائلة. 

 

حينما وصلت إلى جسدي، كان مخاضاً يتواصل منذ ملايين السنين، وبعض المحطات مجرّد محاولاتٍ تاليةٍ لوصولٍ لا أذكر عنه شيئاً، لكنّي أستشرفها تلك الحيوات السابقة، وربّما اللاحقة. ولحبكة العناكب ملامح دود القزِّ، لحُبيْبات الرمل لمعانٌ كريستاليّ، ولخطوط اللازورد ظلالٌ أمشيها .. راسماً في الفراغ مساحات مستحيلة، لكن، حتّامَ أختلق ألفَ حياةٍ في الحياة .. حياةٍ ليست لي ..!!؟ 

 

وأظلُّ أبتدعُ الخوارقَ، لعلّ أجدَ مُن يُشاركُني الموتَ والحياةَ ليلَ نهار. لا يفتحُ الفرحُ الأبواب الموصدة، لأنه ليس الحزن. للحزن حكايةُ الخَلق، البحثُ عن الخلود، اكتشافُ فعل الموت، الوجعُ، الخوفٌ، الحُبُّ .. وكلُّ شيء. 

 

تلك، في الحانة تلك، أو في الحالة أو اللحظة، لكنّها النقطة الوحيدة التي نجَتْ من العدم، ولأنّها رغبتُها .. لأنّي، وقد وصلتُ، ضمّتني بعينين تذرفان دموعَ الفرح. الفرحُ إسمٌ مخيفٌ في بلادنا، هو أبيضٌ كالثلج، يحرق كالجليد، بينما نار الحزن تتلاشى رويداً رويدا، أو لعلّي لستُ الذي ولِدَ هناك، ولستُ الذي جاء إلى هنا. 

 

أفكارٌ، مجرّد أفكار، مثل الوقوع في الفخ، في مصيدة الدّنيا، نحن فيها مجرّد كائناتٍ للإختبار، يا لها من فكرة، الدّنيا مختبر كبير، أُفٍ من حديثٍ محشوٍّ بآراءٍ وصورٍ تستدرج صاحبَها للهذر والهذيان، نعم، واستدراكاً، "الدّنيا دار بلاءِ وامتحان" .. جملة على الألسن والشّفاه، وهي بقعة الزيت، رغوة الزبد، ودوائر الماء، نحاول انتعالها لا نقدر، نُصاب باليأس والإحباط، وبقليلٍ من الانفصام الضروري واللازم، لربّما كي نقعَ على أنفسنا ما بين الواقع والإفتراضي. 

 

وأنا كذلك، استدرتُ لصوتٍ عاجلني من مكانٍ مبهم، ربّما هو في عقلي منذ تلك الآماد الخرافية، يقول وقد امتلأ وقتي بلُعابِ غيماتٍ سكرى، حتّى فاض فمي بترجيع الكؤوس، وقبل أزوف الرحيل، ثمة احتمالٌ للبقاء في لعبة الذهاب والإياب، وبأنّي سيّد هذه اللعبة، إنّما ولغايةٍ أجهلها،  أسترجع حطامَ المراكبِ والمراحل والأجساد، ربّما لاكتمال معنى التراب. 

 

بعدها قرّرتُ شكلي، رائحتي، رغباتي، التباسي لهذي الحياة هنا، خضوعي لها على مضضٍ. رحلةٌ في لبوس الدّخان والرماد، ثمّ خلعتُ عنّي شرانق النيران؛ فإذا بصليل دمي، جسدي كيف كان ينمو، وبأنّ انبساط الهواء يحملني أنّى أشاء، وتلك الأوراق المفقودة، حِبرُها كالكُحلِ في الجراح، والبكاء احتفاء يصيب الصغار والكبار. بأنّ الزمان لو جُمِعَ في ضحكة طفلٍ لكانتِ الجِنانُ هنا في عينيه وكفّيه .. وهي في عينيه وكفيه، وقلبهُ أكوان. 

 

لا تكفُّ يدان عن شمسها، عن قراءة الأكُفِّ، عن الصبح تمسحان الغلس، عن الخيال حين ينثال متبختّراً، في ساعةٍ وشهرٍ وسنة .. وما وراء الكلمات، صورةٌ لا زلتُ أذكرُني فيها، لم أشعر بشيء، تلاشت الأحداث، تلاشيتُ من رسمي، وتلك النظرة الناعسة، تختبر صبري، تثير لواعجَ الأنّات، لكنّهُ يأبى المضيَّ، يا لوقاحتهِ وروعونته، كما لو كنّا معاً منذ ما لا أدري.