التهامْ وجوديّ

لو عدنا...
وإن استطعنا، فهل نعود إلى ما يسرُّ الخاطر والناظرين .. !!

... ولقد، وصلتُ إلى حيث كنتُ والرفاق. كم من مرّةٍ تساءلتُ عن هذا الشعور، عن دنيا كنّا فيها .. وأُناسٍ وحيوات، عنّي .. أراني هنا في مكاني الأوّل الحقيقيّ، وفي عقلي وروحي .. فوق كاهليْ أثقال أربعة عقودٍ ونيّف. ولقد أنفتُ عن الدّنيا بطولها وعرضها، أبحثُ عنّي .. فأجدُني في بطن كتابِ وآخر.

لا أذهل، أواصل حلمي، كاشطاً عن الأفكار، عن البوح، عن المطارح، عن النفوس أشكالاً غريبة، أسحب محيط المكان والزمان خلف الواقع لسردٍ وتأويلٍ يقيما فعل التوازن فيَّ، في هذا المترحّل مدفوعاً، قلقاً، مهجوساً لنبذِ وقهرِ الظلم، وليس مبالغةً .. كيف انقشع أمامي المستقبل القريب والبعيد، أحاول عقلَ الأمور وفهمها، في زمن المنافي والضياع والقتل والدّمار والتهجير.
أعودُها تلك اللحظة الفاصلة بين زمنين وقع خلالهما الكثير، وانقلبت البلاد رأساً على عقب، لا نلوي على شيء، وجلّ ما فعلت .. كأنّما أمسكت بلوحة الحياة الجامعة؛ فلا غياب، لا شهداء، لا احتراب، لا افتراق.
ها أنذا، لا تفسير كيف وقعنا في شرك هذا الالتهام الوجوديّ. "مرحبا شباب"، هكذا إذن بدأ السباق، ربّما لا نحتاج إلى الحقيقة، لكنّا نحتاج للأصدقاء، نحتاج العودة إلينا دون مكاسب، فقط نحن، غير متحوّلين إلى سراب.
لكن، نمضي والوقتَ معاً، مساحتنا الحقيقيّة، نحفظها في لوحة النفس .. في الحياة، كما لو نشعر مجدّداً بمذاقها، لا نغفل عن أجمل اللحظات، حتّى لو فعلنا، يحكي الصّمتُ عنّا، ألَا تبّاً لذلك اليوم الثالث عشر من نيسان لعام خمسٍ وسبعين وتسعمائة وألف.
شيئاً فشيئاً كنّا نُلتَهَمُ، الأماكن، الوقت، الذكريات، الأرواح .. وكلّ شيء. كلّ شيء، يعني، فقدنا لأجزائنا، كما لو نتنقّل على كرسيٍّ متحرّك. والأيام، حِراكُها سالب، كمن يتآكل بدءاً بأصابعه، ثمّ أطرافه، ثمّ، وليس من حصيرة الجسد غير سرمدية الجحيم .. فهل وِهِبَ القتَلَة متعة القتل ..!!
شعوبٌ غير حُرّةٍ في هذا الالتهام الرسميّ، نُظُمٌ لم تتعلّم الطهوَ، ليس سوى الرّعبِ في بلاد العُربِ أوطاني، عُريٌّ طويل الأمد من السلف إلى الخلف، حتّى صار الناجي كبيرَ الغرباء، غراباتٌ لا تنزاح عن أيامنا، تلك المأساوية، كلّما اعتقدنا دخولنا، كان الخروج بلا وجهةٍ ووجوه. أمسكنا عن خطواتِ ترجيحيّةِ آنذاك، وليست خياراً، فتراكضنا في جهات المكان. مكانُنا في ما بعد لم يعُد كما كان، نشعر كيف تنزلق بنا المطارح، كيف ننزلق عنها، عن وجودنا .. !!
وتتوالى شموع الدّهشة، تشتعل إيماءات غير محايدة، والضربات المفاجئة تستند إلى عقائد منحازة لعقولٍ معكوفة، عنها مجازر تتجدّد، جماعات طوائفية تمتحن وجودها. في النظام الطائفي المقيت، لا ينمو غير التحاقد والتفسّخ الاجتماعي.
أسماء الجدران .. وفي ظلّ التمسرح بطولاتٌ مقهورة، ثقافة الجنون بأدوات دمويّة. تسقط الشّمس ما وراء البحر والأبعاد، لا يمكن تجاهلها، فإذا حلّ الفجر، ترجّلوا عن اللوحة، في الخلفية حكاية واحدة، نضطّر فيها لاستجلاب عناصر اللحظة ذات الصلة للصراع، للحصار والصمود، لتصوير المشاهد بالأسود والأبيض لسرديةٍ كفيفةِ الجدل والمشاعر وحتّى القوّة.
تلك الأفلام المزعومة، كُتِبَتْ سيناريواتها بلا نهايةٍ محدَّدة، وسرعان ما فرَّتِ الأقدار عن أصحابها، فرّت المواسم والعقائد، وفرَّ الجيران، فرّتِ الأرض إلى باطن الأرض، بعضها، ربّما إلى السّماء، ومَن حضروا لأداء أدوارهم، عادوا إلى لوحاتهم، ربّما بشخصياتٍ مختلفة، فارتفع التحدّي لانتشال الضوء من بقعةٍ هلامية، فأعدتُ مراراً رؤية حيواتٍ ما وراء الغاية، متيحاً لتفاصيل الدّماء شخوصاً متشبثّ الحواس؛ فإذا القتل والقهر والاستبداد اكسسوارات تُشكّل انعكاساً لفلكلور الوحدة، لكنّا في عين القنّاصة والغربان ولائم سيبرانية لعوالم غير مُكتَشفة، عوالم تعيد علينا احتفاء التهامنا عاماً بعد عام.
والدخول إلى الفكرة، رؤية يعتمل فيها البعد العاطفي والنفسي والاجتماعي، كما الثقافي وإسباغ حلّة عميقة التوجّدِ ذات جمالية مفرطة. في هذا التساوق، رحتُ أسحبُنا من دروب متناثرة، بلوغاً إلى شعلة الحياة، تشيع نضارةً وحيويةً كشجرة الميلاد والعمر والخلود. وما يتقافز من العيون لهفاتٌ كبُرَتْ في الغياب .. في الحنين. تأمّلاتٌ في الفكرة، تجترح توافقاً كاسراً للرّماد والأحزان.