ثروتنا البترولية تسرق

لتلمّس هذا الموضوع الحيوي بشكل علمي وموضوعي، علينا أولاً تحديد طبيعة التركيبة السياسية والاقتصادية في لبنان التي تضع استراتيجية لقطاع البترول. تتشكّل هذه التركيبة من تحالف طغمة مالية مرتبطة خارجياً مع اقطاع سياسي طائفي يرغب فقط بالمال السائل وليس له أي اهتمام بمصالح الوطن والشعب. ثانياً طبيعة الاقتصاد اللبناني ألا وهو اقتصاد ريعي بامتياز. الطبقة المتحكمة، تصرّ على هذا الاقتصاد الريعي لأنها تستطيع التحكم بأموال الريع بأشكاله المختلفة، وتوزّع المغانم على المقربين وكل حسب ولائه وقربه ودوره في الطبقة الحاكمة. النظام الريعي أداة طيّعة بيد السلطة لتحويل اللبنانيين إلى رعايا يستجدون على أبواب أمراء المذاهب من أجل إيجاد وظيفة ومن أجل تأمين حد أدنى من الطبابة والتعليم لهم ولأبنائهم، لذا لا يمكن أن ينتهج سياسات مبنية على اعتبار أنّ السكن، العمل، التعليم، ضمان الشيخوخة والطبابة، الكهرباء، المياه، البترول والبيئة هي حقوق مقدسّة للبنانيين يناضلون من أجلها عبر السنين.

انّ اقتصاد الريع بطبيعته يتناقض، مع الاقتصاد المنتج ويحتّم على لبنان أن يكون واحداً لا يختلف من حيث طبيعته عن اقتصادات الريع في المنطقة، التي تتحكم بمردود الريع وتوزّعه كغنائم للأمراء والمشايخ والزعماء ويبقى الشعب تحت رحمتهم يلهث وراء لقمة عيشه. انّ النظام الاقتصادي الذي يرتكز على الريع لا يمكنه أن يضع سياسة تنموية شاملة تنطلق من تطوير القطاعات المنتجة، وخلق فرص عمل لشعبه والحدّ من هجرة شبابه. انطلاقاً مما تقدّم، نستطيع الجزم بأنّ الطبقة الحاكمة وطبيعة اقتصادها لا يمكن أن تضع استراتيجية وطنية لقطاع البترول، والتي من شأنها أن تخدم المصالح الوطنية والتنمية الشاملة في لبنان، وتحافظ على حقوق الشعب اللبناني في ثروته البترولية.

وقائع تعاطي السلطة مع هذا الملف الحيوي

قامت السلطة التشريعية بعد نقاشات مطولة بإقرار قانون استثمار الموارد البترولية في المياه البحرية عام ٢٠١٠تحت رقم ٢٠١٠/١٣٢ وحددت الاسس الاستراتيجية، القانونية والاقتصادية والمالية، لسياسية الدولة في قطاع البترول. بالرغم من العديد من النواقص والهفوات في هذا القانون لكنه حدد نقاطا اساسية اهمها: الحفاظ على ملكية الدولة للثروة البترولية ومشاركتها بعملية التنقيب والاستخراج والتسويق وذلك عبر شركة وطنية لقطاع البترول وعلى أساس مبدأ "تقاسم الإنتاج".
وهذا بالمنطق العام يتناسب مع وضع لبنان الذي ليس لديه خبرات في هذا المجال، ويتطلب الاستعانة بشركات عالمية لديها خبرات وامكانيات في الاستثمار في قطاع البترول. حدّد بعض الاطر، على ان تتفق الدولة على اعطاء رخص التنقيب عن البترول لشركات مختصّة، وذلك على مسؤوليتها، فإذا لم تجد الكميات التجارية المقبولة، لن يدفع لبنان اي شيء من تكاليف التنقيب، أما إذا وجد البترول بكميات تجارية، حينها تتفق الدولة مع الشركات المعنية على المشاركة في الاستخراج والتسويق وتقاسم الحصص، وتكون حصة الدولة لا تقل عن ٤٠٪، وتدفع نسبة حصة الدولة من عملية تكاليف التنقيب تدريجيا. علاوةً على ذلك، يترتّب على الشريك الاجنبي دفع أتاوة لا تقلّ عن ١٢،٥٪ من قيمة الانتاج وضريبة على الارباح، اضافة الى علاوات ورسوم مختلفة تؤدي في النهاية الى حصول البلد المضيف على نسبة بين ٧٠-٩٠٪ من مجموع الارباح، ويؤمّن هذا النظام للبلد المضيف امكانية مشاركة فعلية في عملية استثمار البترول عبر شركته الوطنية، وتدريب الكوادر المحلية، واكتساب الخبرات اللازمة. هذا النموذج من الاستثمار يستخدم في أكثر من ٧٠ دولة في العالم. يحتوي القانون على نقاط ضعف عديدة اهمها، أنه لم يحدّد مسؤوليات الاطراف الرسمية بهذا الملف. لم يحدد بشكل واضح وصريح مسؤولية كل من مجلس الوزراء والدولة ووزارة الطاقة ووزيرها وهيئة ادارة قطاع البترول. كما لم يحدّد بشكل واضح كيفية عقود العمل وتامين العمّال والموظفين ضدّ مخاطر العمل وغيرها من الامور الحسّاسة. عطفاً على هذا القانون، كلّف وزير الطاقة الهيئة الوطنية للبترول وضع المراسيم التطبيقية للقانون رقم ٢٠١٠/١٣٢.


فضائح المرسوم التطبيقي رقم ٢٠١٧/٤٣

إنّ المرسوم التطبيقي المقدّم من هيئة البترول عبر وزير الطاقة والذي يفترض أن يضع الإجراءات التطبيقية لقانون استثمار البترول، جاء متناقضاً بشكل صريح وفظّ مع الكثير من بنود القانون، وضاربا بعرض الحائط، بالمصالح الوطنية. لنتوقّف، على سبيل المثال لا الحصر، بأهمّ مخالفات المرسوم التطبيقي للقانون المقر في المجلس النيابي:

١- من الضروري التوضيح من هي هيئة ادارة البترول؟ بموجب القانون، تعيّن هذه الهيئة من قبل وزير الطاقة، وتتكوّن من ٦ اعضاء ممثلين للطوائف الستة الاساسية حسب العرف الاعوج المتبع، وتقوم بإدارة قطاع البترول. يتقاضى كل عضو فيها معاشاً شهرياً قدره ٢٥ ألف دولار، لضمان طاعته لمصالح الجهة التي عينته. وعليه، نرى كل عملها منسّق لصالح أطراف السلطة، مما سمح لها وضع مرسوم تطبيقي مخالف للقانون، وفتح المجال امام النافذين بالفرصة الذهبية لنهب اموال البترول. وتقديراً لعملها وخدماتها، مددت الحكومة لهذه الهيئة ٦ سنوات جديدة بعد انتهاء مدتها العام الماضي.

٢- قامت هيئة ادارة البترول وبتكليف من وزير الطاقة بوضع المرسوم التطبيقي لقانون البترول المقر من الجلسة النيابي. المادة الخامسة من هذا المرسوم، تنص حرفيا " لن تكون للدولة أية مشاركة في دورة التراخيص الاولى " لنرى ما المقصود بذلك؟ هي مخالفة واضحة وفظة لما نصّ عليه القانون صراحةً، والهدف اخراج الدولة من كامل عملية الاستثمار في قطاع البترول، وضرب أسس “مبدأ تقاسم الانتاج " بين الشركة الاجنبية المشغلة والدولة اللبنانية، والانتقال الى مبدأ غريب عجيب لا يوجد منه في دول العالم الا وهو " مبدا تقاسم الأرباح ".

٣- عطفاً على البند الاول، تمّ الغاء فكرة انشاء شركة وطنية لإدارة قطاع البترول رغم اهميتها في تمثيل مصالح الدولة بكافة مراحل العمل في هذا القطاع الحيوي من التنقيب والاستخراج والتسويق وانشاء الصناعات البتروكيميائية وتدريب الكوادر الوطنية وخلق فرص عمل للشعب وخاصة لشبابه. بذلك يكون لبنان أوّل دولة في العالم يدخل الى قطاع البترول بدون شركة وطنية تحمي مصالحه وثروات شعبه حيث تمّ ابقاء كافة الامور المتعلقة بقطاع البترول في يدّ وزير الطاقة وهيئة ادارة القطاع، مما يسهل عملية التحاصص والسمسرات والصفقات.

٤- المرسوم حددّ وبشكل واضح تصنيف الشركات التي ترغب في المشاركة بالمناقصات، وهنا تكمن اللعبة الكبرى واللغم المستور. الملفت للنظر بأنّ هيئة قطاع البترول صنفّت ٥٣ شركة يحق لها المشاركة في المناقصات. علماً ان الشركات المختصة والتي تملك خبرات وامكانيات مالية ولوجستية في مجال البترول عالميا لا يتجاوز عددها ال ١٦ شركة. فعلى اي اساس صنفت هيئة ادارة البترول ٥٣ شركة؟ تبيّن بأنّ في المرسوم يوجد نص واضح في دفتر شروط المناقصات. تنص المادة ٦ منه على " لا تقبل طلبات الحصول على حقوق التنقيب والاستخراج الا إذا الشركات المشغلة (اي الشركات العالمية المتخصصة) تعاونت مع شركات غير مشغلة (تجارية)، بمعنى أنه على الشركات العالمية ان تتفق مع شركتين تجاريتين كي يسمح لها بالمشاركة في المناقصات، على أن يكون نصيب المشغل ٤٠٪ وغير المشغل ١٠٪. بسحر ساحر لجأ أفراد السلطة الحاكمة وبسرعة فائقة إلى تأسيس شركات اغلبها وهمية. فأسّس أحد الوزراء شركة في هون كونغ برأسمال ١٣٠٠دولار بدون عنوان، وغيره من المتنفذين اسسّوا عدة شركات اغلبها وهمية، وتقدموا من هيئة البترول كشركات غير مشغلة، وتم تصنيفهم، بذلك أصبح عدد الشركات التي لها الحق في المشاركة في المناقصات والمصنفة ٥٣ شركة بما فيها حوالي ١٥ شركة مشغلة متخصصة ومعروفة. كان من المهم بهذا المجال تأسيس شركة وطنية لقطاع البترول يكون لها الحق بالمشاركة في المناقصات. لكن ذلك يفقد السلطة الحاكمة وسماسرتها الفرصة الذهبية بوضع يدها على قطاع البترول وجني مليارات الدولارات، وحرمان الشعب من الموارد الاهم للبترول والقضاء على حلمه أن يعيش بكرامة.

٥- تقدّم وزير الطاقة بمشروع المرسوم التطبيقي هذا الى حكومة الرئيس تمام سلام، فرفض المشروع لأنه مخالف للقانون. بعد خروج الرئيس سلام من السلطة، قُدم المشروع مجدداً الى حكومة سعد الحريري. والملفت بان هذه الحكومة، وفي أوّل جلسة لها، وضع على جدول اعمالها مشروع المرسوم التطبيقي كبند أوّل في جدول أعمالها. وأٌقرّ تحت رقم ٢٠١٧/٤٣ بصفة السرية وبدون اطلاع المجلس النيابي عليه. وقد أجريت مناقصات البلوك الرابع والتاسع على أساس هذا المرسوم المسخ رغم مخالفته لقانون البترول رقم ٢٠١٠/١٣٢ والجميع في صمت مريع.

٦- الاهمّ من ذلك كلّه، فإنّ هذا المرسوم يفقد فعلياً ملكية الدولة لقطاع البترول بطرحه بان "الدولة لن تشارك في التراخيص الاولى" وتغطّى المرسوم بورقة تين عندما أجاز للوزير الطلب من الشركة الاجنبية تعيين مراقب للوزير مهامه تتكوّن من حضور الاجتماعات وتقديم تقريره الى الوزير. انها لفذلكة غريبة اذ كيف يمكن لصاحب الثروة أن يتنازل عنه ليصبح دوره مراقباً فقط؟؟!
فعلياً، الدولة تنازلت عن ملكيتها وحقوقها الوطنية الى الشركات الاجنبية وشركائها الغير مشغلين حيث أصبحوا يملكون حق الملكية والتصرّف بها وتكتفي الدولة بما تعلن هذه الشركات عن "أرباح" وتأخذ نصيبها المشكوك بأمره من قطاع البترول.

٧- إنّ استعراض مختلف مكونات حصّة لبنان من استثمار لثروته البترولية حسب العقود المبرمة على اساس المراسيم التطبيقية يبيّن أنّ حصة الدولة، حسب المرسوم المسخ لن تتجاوز في أفضل الحالات ٤٧-٥٤٪ على أساس: اتاوة ٤٪ تضاف اليها ٣٠٪ من الارباح وضريبة٢٠٪ على ارباح الشركة العاملة وهذا بأقصى شروط" الشفافية" ويرتكز على ما تعترف به الشركة وحقيقة أرباحها، مقابل نسبة تتراوح بين ٦٥ و٨٥ ٪ مضمونة لو استخدم "مبدأ تقاسم الانتاج " حسب ما حدّد القانون. هذا ما يرتّب خسائر على الدولة بمليارات الدولارات تذهب الى جيوب أطراف الطبقة الحاكمة.

خاتمة
هذا الملف بتعقيداته وتشعباته الكثيرة، كما في غياب معايير العدالة والشفافية فيه، يكشف فضائح الهدر وسرقة المال العام وحقوق الشعب والدولة. هذا طبعاً إذا استثنينا المخالفات والشبهات المتعلقة بقانون العمل والعقود وحماية العمال والموظفين وتأمينهم، وتدريب الكادرات الوطنية وغيرها. وبالرغم من المخالفات الخطيرة التي سلّطنا عليها الضوء في هذا المقال حول المرسوم رقم ٢٠١٧/٤٣، إلّا أن هذا الأمر لم يمنع الدولة من توقيع عقود الاستثمار في بلوك رقم ٤ وبلوك رقم ٩، إذ أن العقود أجريت استناداً لفحوى المرسوم. بناءً على ما تقدّم، يمكننا القول وبكل ثقة، بأنّ ثروتنا البترولية يهددها خطر السرقة والنهب، من قبل الطبقة الحاكمة، وسيبقى الشعب اللبناني يلهس وراء لقمة عيشه.