مستحيلان حتى الان: المساءلة والمحاسبة

الارتكاب في لبنان مشروع ومعلوم. لا يخفى على الانسان العادي ولا على الأحمق. سيرة الارتكاب تأسست من لحظة تكوين السلطة بعيد ولادة الكيان، منذ مئة عام. أصل الارتكاب من أصول الكيان. والكيان استبدع شكلاً للنظام، يقنع الانسان السوي والسليم، ولا يقنع صاحب المصلحة، وسيد القوم، والممثل المتوارث للسلطة.

الارتكاب في النص، مُدان. في الممارسة، النص يُصان. تزوّر لبنان بعيد تأسيسه بدستور حديث وقوانين مقتبسة من خزائن الدول الديمقراطية والحديثة راعت حقوق الناس، وفصلت بين السلطات، واشادت مؤسسات رائدة: رئاسات ومجالس وزارية، ونيابية وأجهزة قضائية مناسبة، وكلها خاضعة لسلطة الدستور والقوانين ...إلا ان النصوص لا تشبه النفوس. كان يمكن أن يكون بلداً ديموقراطياً بنسبة معقولة ومقبولة، لولا الطائفية السياسية، التي تشكل الهيكل المقدس الذي تنتظم تحت قبته كل النصوص. لا دين للدولة في لبنان.صح. انما لها دين خاص. الطائفية هي الدين السياسي الأول والمقدس للنظام وجموع المنتمين تاريخياً الى أصولهم الطائفية والمذهبية ومن حق الطائفية السياسية أن تكون فوق القانون  بل فوق الدستور لذلك احتاج لبنان، صبيحة استقلاله، ان يستولد "الميثاق الوطني" الطائفي القواعد والركائز. الدستور وحده غير كاف هو لم ينص على طائفية الرئاسات والادارات والجيش والقضاء والسياسات.هو دستور حديث، احترم تقاليد الطوائف في ما له علاقة بالزواج والطلاق وال... وتنبه الى ضرورة اشراك الطوائف في السلطة، مؤقتاً. نعم مؤقتاً كما نصت المادة ٩٥ من الدستور. لكن المؤقت صار مؤبداً.

بنية النظام، لا تشبه الدستور، في الممارسة، لذا، فلا مساءلة ولامحاسبة، الا شكلاً. هل يحاسب النواب التابعون لزعاماتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية. يحاسبون خصومهم الطائفيين السياسيين، وتنتهي عملية المحاسبة، بإعادة التوزيع الميثاقي للسلطة، لذا، الفساد هو الدين العملي في لبنان. فالمساءلة شكلية ومسرحية، والمحاسبة، إذا تمسك بها من يريد المحاسبة، عليه ان يتنبه أنّ الحساب يجرّ الويلات الجسيمة. لبنان الواحد، عندما، يتعدد، ويتمادى ويصل الى حدود الحرب الكلامية في المجالس ثم في الشارع.

ما جاء أعلاه وصف بات معروفاً. السؤال أما كان ممكناً تطوير الممارسة، تمثل المساءلة والمحاسبة مكانتها في الدولة والمجتمع؟ الجواب كلا لأن ذلك لم يحدث، بل جرى العكس. كان من المفترض والمنطقي أن تكون "الميثاقية" أي الطائفية البنّاءة، مؤقتة وتفتح الطريق لنظام، تتضاءل فيه الطائفية وتتنامى فيه القواعد المدنية...هذا لم يحدث ولن. لبنان، طائفي أصيل، قبل ان يصير دولة ودستور ونظاماً وحياة لبنان حُبِل به طائفياً من دون هذا الحبل كان ممكن أن يكون لبنان آخر . هذا لم يحصل حدث العكس. لبنان وفي الرحم الطائفي الطائفية سابقة على لبنان. الطائفية كانت بحاجة الى بنيان سياسي فكان لبنان.

والسؤال الثاني، لماذا لم يتطوّر لبنان الطائفي ويتقدم باتجاه الدولة المدنية والنظام اللاطائفي ! أولاً، لأن الانتماء الطائفي الأول، ليس للبنان، بل لدول خارج لبنان ومحيطه، كانت على صراع أو خلاف، حول قضايا اقليمية متعددة. المسيحيون في اتجاه. السنة في اتجاه،  الشيعة، في ما بعد، في اتجاه. واتجاهات المنطقة صدامية. صراعية، عقائدية، ومذهبية. لا ننسى فلسطين والناصرية والاميركية والعدوان الثلاثي وحرب السبعة والستين وصراعات الاخوة الاعداء، القوميين والبعثيين الخ ... ولبنان كان موزعاً طائفياً في انتماءات والتزامات متناقضة. وكل هذه الولاءات لا دستورية ولا قانونية.... لبنان ساحة مفتوحة ومشرعة لكل حروب الآخرين.... وكانت الحروب والصراعات تتوقف. فمن يحاسب من؟ كانت التسويات هي العلاقات للارتكابات.

لماذا هذا هكذا ؟ لا تعذر الجماعات اللبنانية، التي يطلق عليها لفظ "الشعب"، من المسؤولية. قادة الطوائفيات السياسية، ليست بحاجة الى جهد كبير لتحشيد الجماعات المذهبية. انها حاضرة ومجهزة ومؤدلجة. "اللبنانية" هي الانتماء الورقي أو الوثائقي. "اللبنانية" هشة جداً. اقوى منها الانتماءات الاقليمية والدينية والمذهبية...قليلون جدا، هم الذين اكتفوا بانتماء للبنان فقط. سموا انعزاليين. وعليه، هذه "الشعوب" لا تسأل ولا تحاسب. فهي إما تؤيد وتبرر حتى الخيانات، وإما تبرر وتداوي المعارك، بعفى الله عما مضى ... الشعوب اللبنانية، لا تعتبر نفسها مرجعية. المرجعيات  هي القيادات المتوارثة والمدعومة والؤيدة تلقلئياً وتناسلياً ومذهبياً. تخلى الناس عن ان يكونو هم المرجعية. الشعب هو المرجعية في الدول الديمقرطية وهو الذي يسائل ويحاسب ويعاقب، طبعاً لنصوص الدستور وإنقاذ للقوانين واحقاقاً للحق وعقاباً للمخالفة أو الجرم ... المرجعية، تمّ اغتصابها، على مرأى وتأييد وحماس جموع ولدت في أعناقها رسن، وفي عقولها عور، وفي اخلاقها قوة تدوس القيم.

لهذا اصبح لبنان هكذا. مؤسساته محتلّة. سياساته معتلة. يتيمة مستباحة، انسانه مهمل ومحتقر ومسييّب، وقيمه انشاء وألفاظ ونصوص. انفصام عاتٍ بين الانسان والقيم. ليس مستغرباً في هذه الاحوال، أن ترى الطائفيين يخونون ما يعرفونه ويدرسونه ويكتبونه. العامة معذورة. الجهلة كذلك. لكن الطائفية في لبنان مدعومة من اهل علم وفكر وثقافة واختصاص. قلة نادرة من أهل الفكر والاختصاص، أساتذة  الجامعات وخبراء دوليون، خرجت من طوائفها  الى رحاب المجتمع. حيث للمساءلة حيز أول للمحاسبة حيز أمتن. يحاسبون ويرفعون الصوت. للاسف. هؤلاء قلة....كثيرون من اهل الاختصاصات العالية، والتي درست ودرّست في جامعات محلية وأجنية، اصطفوا طائفياً. هؤلاء الدكاترة والاختصاصيون والخبراء، على دين ملوكهم الفاسدين، وليس على مذهب العلوم، والقيم التي درسوها ويدرسونها.

مشهد التهافت الشعبي الطائفي، طبيعي جدا، في دولة محت الانتماء الوطني حيث لا مواطن معترف به. إما ان تكون طائفياً نابغاً وإما انت غير موجود، إلا في متاحف ما تبقى من جمعيات وأحزاب على قيد الحياة الصعب والنادر.... المشهد غير الطبيعي، أن تجد حلقات من "مثقفين" وكتاب واعلاميين  واهل اختصاص، يتصرفون كخاتم في اصبع الزعيم. انهم بالاشارة يفهمون. من دون هذا الارتباط "الطبيعي" ، يمكن أن نفهم هذه الإزدواجية التامة، بين رجال العلم المناضل والعمل المهني.

اذا لا مساءلة ولا محاسبة. الانتخابات كذبة. صناديق الاقتراع، في دولة غير ديموقراطية، لا تنتخب إلا طبقة من المتسلطين، فوق القانون. صناديق الاقتراع، بلا ديموقراطية، نقترع لمستبدين ونجدد لهم. هكذا نحن في لبنان. الاستبداد الطائفي، هو دين العامة الطائفيين.

اذاً من أين يبدأ الاصلاح؟

ليس في هذا الزمن. ليس بهذه المؤسسات. سوارنا الثقافي بحاجة الى مناضلين يزرعون الآن لتحصد الاجيال المقبلة، مواسم الحرية والعدالة والمساواة والمساءلة والمحاسبة.

لا تعولوا كثيرا على الصراخ. عوّلوا على التأسيس والالتزام والصبر.