السودان بين الحكم المدني ومطرقة العسكر

أثناء محاكمة عبدالخالق محجوب يوم الثلاثاء ٢٧ تموز ١٩٧١، قام قاضي المحكمة العسكرية العقيد احمد محمد حسن بتوجيه سؤال الي المتهم :"ماذا قدمت لشعبك؟" ..أجابه محجوب بكل هدوء: "الوعي... بقدر ما استطعت". في لحظاته الاخيرة، ينطق المناضل بخلاصة حكمته الثورية التي راكمها عبر السنين. افتتح المحجوب بكلمة واحدة، ارثه وتركته، التي لا تتضمن الا ملك واحد يضاهي بقيمته كنوز العالم بأسره،  الوعي. فبرهن الشعب السوداني، طوال سنين كفاحه، انه لم يشذ عن خط عبد الخالق محجوب. التزم بالنضال الواعي والمستمر رغم بطش ديكتاتورية البشير واجرامها بحق التقدميين والتغيريين. فبرهن الشعب السوداني، خاصةً طبقاته الشعبية، أنه على قدر عال من الوعي، وقادر على  خوض صراع تحرري ضد نظام برجوازي قمعي واستبدادي في سبيل دولة سودانية ديموقراطية حرة وعادلة.

 منذ عامين ونيف، وعقب احتجاجات شعبية واسعة طالبت باسقاط حكم البشير بعد اعوام طويلة من القمع والهيمنة الدموية، نفذ الجيش السوداني بقيادة احمد عوض بن عوف انقلاباً على النظام. ترأس هذا الاخير المجلس العسكري الانتقالي ليوم واحد فقط تلاه على رأس المجلس الفريق أوّل رُكن عبد الفتاح البرهان، المفتش العام للقوات المسلحة السودانية، بعد أن استقال عوف من منصبه. لحق ذلك الاعلان عن اتفاقية بين الاطراف والاحزاب المدنية التغييرية الممثلة بتحالف "قوى اعلان الحرية التغيير" (من ضمنها الحزب الشيوعي السوداني)، وبين المجلس العسكري الانتقالي برئاسة البرهان. كان الاتفاق الاساسي الذي عقد في ١٧ تموز ٢٠١٩، يقضي بأن الطرفين سيتشاركون السلطة ليعمل الى تسليم الحكم تدريجيًا الى القوى المدنية، لتختتم هذه الفترة الانتقالية بانتخابات عامة في البلاد في اواسط عام ٢٠٢٢.

الا ان الرياح، كعادتها في وطننا العربي، جرت بما لا تشتهيه القوى التغييرية المدنية، فيوم الاثنين ٢٥ اكتوبر المنصرم نفذ العسكر بقيادة البرهان انقلاب على رئيس الوزراء عبدالله حمدوك بانتهاك واضح وصريح للاتفاقية المبرمة مع تحالف "قوى اعلان الحرية والتغيير". 

إنها "الخطيئة العظمى". منذ بداية الحركة الجماهيرية المطلبية عام ٢٠١١ في معظم انحاء الوطن العربي التي أُتلق عليها إسم "الربيع العربي"، ونحن نشهد ظاهرة جديدة غير مألوفة لنا، هي "أنصاف - الثورات" كما اسميها. ويجدر بنا اولاً تعريف الثورة بشكل عام من اجل تحديد ما هي أنصاف - الثورات. 

الثورة في التعريف الاجتماعي والتاريخي العام هي إنتفاضة طبقة أو فئة من المجتمع على جهاز الحكم فيه، ويجري الانقضاض على كل شكل من أشكال وجود هذه السلطة القديمة، من المناهج التعليمية الى القصور الشاهقة والاجهزة العسكرية القمعية. فالهجوم على القصور أو المراكز الحكومية واحتلالها لربما يظهر للمرء، للوهلة الاولى، أنه عمل اعتباطي، غرائزي، لا جدوى منه. لكن اذا تعمقنا في فهم مدى محورية البناء الهندسي، أي المكان الحسي المكون من الحجارة والخشب وغيره، في فرض هيبة النظام الذي بناه، لفهمنا هذا التصرف المحوري في الثورات كافة (مثلاً: سجن الباستيي في فرنسا، قصر الشتاء في روسيا).

 

طبعًا من منظار فلسفي وتاريخي بحت فالثورة تمثل قطيعة في إستمرارية سلسلة أحداث كانت تجري في ظل النظام القديم، فهي قطيعة مع كل ما يمثل هذا النظام على جميع الصعد، الفكرية، الثقافية، الشعبية وغيرها. هي فعل إنفصال وطلاق في الزمن بين ما هو قائم (أو كان قائمًا) وبين ما سيقوم في ما بعد.

في أيامنا بات إحتلال الامكنة والساحات العامة رمز من رموز الانتفاضات الشعبية (احتلال وسط بيروت في انتفاضة ١٧ تشرين). فهذه الساحات هي رمز لتجمهر المجتمع ووحدته في وجه تقسيم منهجي تعتمده القوى الحاكمة.

عودةً الى ظاهرة "أنصاف - الثورات" فهي ثورة ناقصة أو غير ناضجة، فكما أشرنا الى أن الثورة هي قطيعة مع النظام القديم لوضع أسس جديدة يبنى عليها جهاز حكم آخر مختلف بنيويًا عن الذي سبقه. "أنصاف - الثورات" هي عكس ذلك، هي محاولة شريحة اجتماعية الانقضاض على الحكم القديم واسقاطه، بالاستعانة بوجه من وجوه هذا النظام الذي إختلف معه مرحليًا. تحت حكم البشير كان العسكر اداة اساسية لقمع الناس ولخنق النفس التغييري على مر سنين طويلة، الا ان هذا العسكر بالذات اي جهاز دولة البشير القمعي هو الذي إنتفض على البشير وأسقطه، بعدها ارتضت القوى المدنية الاتفاق مع هذا الجهاز وكأن الوحي الالهي غير جوهره، فحوله من مطرقة في يد الطاغي الى مطرقة عليه.

لا أعاجيب في العلم النظري، لا وحي الهي، لا استفاقة مباغتة بل وظيفة ايديولوجية مصلحية مادية.

من أجل إيضاح موقفنا من المسألة أكثر، نستعين بخلاصات المفكر الشهيد مهدي عامل في كتابه "مدخل الى نقض الفكر الطائفي". يصل عامل في كتابه المذكور الى خلاصة واضحة، لا يمكن نقض الفكر البرجوازي من موقع برجوازي، بل يتم النقد والنقض من موقع مقابل بل معارض له بنيويًا، هو موقع الفكر الماركسي اي فكر الطبقة العاملة. اذا اعتمدنا هذه القاعدة في فهم اساس التحركات المادية على الارض والفكرية معًا، يمكننا القول انه لا يمكن قلع النظام بادوات النظام او بادوات متشابهة طبقيًا وايديولوجيًا معه، بل بأدوات هي متناقضة بنيويًا معه ومختلفة جذريًا عنه. جماهير الشعب السوداني كانت قد انجزت مسار سليم لثورتها على حكم البشير، الا أن "الخطيئة العظمى" أي التحالف مع العسكر، وجه أساسي من وجوه نظام البشير نفسه، أعدم كل امكانية للتغيير المدني الديموقراطي. لا يسعنا اليوم القاء اللوم على القوى المدنية ولجمها وهي تواجه مؤامرة نكراء، تحاول اجهاض ما حققته إنتفاضة عام ٢٠١٩ من إنجازات، لكن الملاحظة النظرية لا تحتمل المهادنة والمسايرة، هي واضحة، صارخة، موجعة لكن مداوية تسلط الضوء على مكامن التناقض والخلل من اجل المعالجة الصحيحة منعًا للالتهاب والبتر. 

هذا هو الوعي الذي تحدث عنه محجوب كخلاصة لتجربته الثورية، هو القدرة على النقد واعادة النظر وبناء الاستنتاجات عقب الحوادث المادية لا العكس، فكما قال مهدي عامل "ومن شروط الثورة أن يتوفر لها وعي متسّق، إليه تستند، وبه تستبق الممكن". ومن هذه النافذة ندخل الى الموضوع المحوري والاساسي. "لا حركة ثورية بلا نظرية ثورية" وهذا القول المختصر للينين  يجمع في طياته مجلدات وكراريس من العلم النظري الماركسي. لا تقوم اي حركة جماهيرية، ثورية، واضحة، تمتلك التغيير، الا مسترشدة بنظرية ثورية تؤمن لها الادوات الفكرية التحليلية التي تتيح لها فهم الواقع واستشراف المستقبل.

ما يمكن إستخلاصه من تجارب "الربيع العربي" بشكل عام والسودان بشكل خاص، هو ان النظرية ما زالت مهمة رغم محاولة الليبراليين تحجيمها بدفع لتيار اللا - نظري الى الواجهة. فاللا نظرية هي نظرية بحد ذاتها كما ان اللا-سياسي هو سياسي بالعمق وكما ان الحياد هو موقف، هو موقف الخانع للحكم الموجود والقائم والمطبع معه.

فالتحالفات لا يمكن أن تكون إعتباطية، ولا يجب ان تكون قصيرة النظر بدافع العجلة أو الحماسة أو الاثنين معًا. لا يمكن إستخدام أداة الديكتاتورية لكسرها، ولا تصح فكرة الاستفادة منها "على القطعة"، فبغض النظر عن الانجازات التي قامت بها القوى العسكرية، من قلع البشير ونظامه، الا أنها كانت ستعود حكمًا الى موقعها الطبقي والايديولوجي الاصلي، أي أن تستعيد دورها كالذراع المسلح لحكم الطبقة العليا. وما شاهد على صحة النظرية والتحليل الا حوادث ٢٥ اكتوبر المنصرم.

اما الان، نغتنم الفرصة لتوجيه التحية الى الشعب السوداني الصامد في وجه البطش والقتل، الى الشبات والشباب الذين يواجهون بصدورهم العارية رصاصات القمع والاستبداد. نوجه التحية الى كافة القوى المدنية المناضلة ونشد ازرها في هذه الاوقات العصيبة، نخص بالتحية الحارة الخاشعة رفاقنا في الحزب الشيوعي السوداني، حزب عبد الخالق محجوب، الذي لم يتوانى يومًا عن المطالبة بالعدالة والمساواة وبحكم عادل. من هنا تأتي دعوتنا الى الحزب الشيوعي السوداني ان يستعيد دوره الرائد في قيادة حركة التحرر والتغيير الثوري في السوادان فليس هنالك طرف اخر، افضل مكانة واشد علمًا منه للقيام بهذه المهمة. استعير مقولة جميلة  مع بعض التحوير لمقتضايات الحديث مع الاعتذاز من صاحبها، "عودوا الى فكر عبد الخالق محجوب يا رفاق تعودون الى الوضوح.".