الانقلاب في السودان وخطر العودة إلى العزلة

كما هو متوقع، وبعد فترة من الانغلاق السياسي، وكذلك بعد عدة محاولات انقلابية، نفذ المكون العسكري في مجلس السيادة الحاكم في السودان انقلاباً عسكرياً، في 25 تشرين الأول الماضي، حل بموجبه مجلس السيادة وأعلن حالة الطوارئ في البلاد وجمَّد العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية وعزل رئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك، وأودعه هو وزوجته في أحد السجون. وإذ يأتي الانقلاب نقضاً للاتفاق الذي رأى النور عبر الوثيقة الدستورية، فإنه يعد ضربة موجعة لثورة ديسمبر 2019، ومبادئها والمسيرة التي كانت جارية بفضلها نحو إقامة دولة مدنية. ومع انتصار الثورة ازدادت الآمال بحدوث قطع مع سياسة الانقلابات التي تولد الديكتاتوريات، غير أن المكون العسكري المنقلب، اتبع سياسات الحكومات الديكتاتورية ذاتها، ما ولَّد خشية من عودة السودان إلى العزلة عن المجتمع الدولي.

ويأتي هذا الانقلاب قبل أيام من حلول موعد تسليم قيادة المرحلة الانتقالية إلى المكون المدني في مجلس السيادة الممثل بقوى إعلان الحرية والتغيير، والذي كان متوقعاً في أواسط تشرين الثاني، وذلك بعد مضي سنتين على قيادة المكون العسكري لهذه المرحلة. وكان مقرراً تسليم العسكر قيادة المرحلة الانتقالية للمدنيين، عملاً بما جاء في الوثيقة الدستورية الموقعة، في آب 2019، بين المجلس العسكري الانتقالي، وقوى إعلان الحرية والتغيير الذي كان يضم القوى التي شاركت في ثورة ديسمبر 2018، من تجمع المهنيين والجبهة الثورية وتحالف قوى الاجماع الوطنية وغيرها، هذه الثورة التي أدت إلى خلع الدكتاتور، عمر البشير، من الرئاسة بعد 30 سنة أمضاها حاكما فردياً للسودان.

شهدت البلاد خلال حكم البشير أصعب مراحلها وأكثر أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية حدةً؛ إذ أدت في مرحلة من المراحل إلى انفصال جنوب السودان عن شماله، وعزل البلاد عن محيطها الأفريقي وعن المجتمع الدولي. وبسبب تحالفات البشير غير المدروسة، والتي ترجع إلى سببٍ واحدٍ، هو العقلية الفردية في الحكم التي تقصي أي رأي مخالف، صاغ البشير علاقات مع بعض المكونات الدينية، ثم عاد وانقلب عليها بعدما أدت الوظيفية التي أرادها منها. وكوَّن علاقات مع أفراد من منظمة القاعدة وأمن لهم المأوى، ما ساهم في وضع بلاده على قائمة الدول الراعية الإرهاب وجلب لها عقوبات دولية وحصار وعزلة عن المجتمع الدولي، ما زاد من أزمة البلاد الاقتصادية والمالية وانعكس على معيشة أبناء الشعب. كما زاد من حدة التوترات الداخلية بسبب رفضه تبني مدنية الدولة، فتحالفه مع بعض القوى الدينية، كرس سياسة التمييز في بلاد معروفة بتنوعها الديني والمذهبي والعرقي والقومي. وتسببت هذه السياسة بحروب في دارفور وقلاقل مع الجنوب أدت إلى انفصاله، وإلى حدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تورط بها البشير وعدد كبير من أركان نظامه، وجعلته على قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية.

أما بعد انتصار الثورة وخلع البشير، فقد تنطع رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، المعتقل لدى الانقلابيين الآن، لمهمة إعادة السودان إلى المجتمع الدولي، وهو الخبير في العلاقات الدولية بفضل المواقع التي كان يشغلها في المؤسسات الدولية التابعة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وتبوؤه منصب أمين عام لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا. لذلك، نظم حمدوك اجتماعاً حضره مندوبو 57 دولة وست منظمات دولية، علاوة على عددٍ من وكالات الأمم المتحدة، وذلك على هامش أعمال الدورة الـ 74 من اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في أيلول 2019، للمساعدة في رفع اسم بلاده من قائمة الدول الراعية الإرهاب، وهو ما تحقق بعد أشهر، ومساعدتها على إغلاق ملف الصراع المستمر من عقود، وإعادتها إلى المجتمع الدولي، ما أخرجها من عزلتها الطويلة.

لكن في انقلابهم هذا، يغامر العسكر في القضاء على كل ما حققته ثورة ديسمبر، من تفاهمات مع القوى المسلحة المناهضة للحكومة السودانية، ما يعيد القلاقل للبلاد. وكذلك يغامرون بإعادة السودان إلى العزلة عن المجتمع الدولي، وكانت أولى خطوات هذه العودة، تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، عملاً بسياسة اتبعها الاتحاد لتجميد عضوية الدول التي يحصل فيها انقلاب من أجل الحد من الانقلابات التي وصَمَت أفريقيا. وكذلك رفض دول الاتحاد الأوروبي التعامل مع الانقلابيين ومطالبتهم بتسليم السلطة للمدنيين ووقف المساعدات التي كانت مقررة للسودان، وأهمها ملايين الدولارات على شكل منح من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وتبقى هنالك إمكانية ماثلة دوماً لفتح ملفات رئيس الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، ومساعده، محمد حمدان دقلو، الملقب (حميدتي)، ومسؤولياتهما عن الإبادة في دارفوار ودعوتهما للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي زيادة العزلة والحصار على السودان والعقوبات إذا رفضوا المثول واستمروا في سدة الحكم.

ربما يعوِّل عسكر السودان على علاقتهم مع الكيان الإسرائيلي في منع فرض تلك العزلة، ويدخل في هذا الإطار ما نقله موقع (واللا) الإسرائيلي، قبل أيام، عن زيارة وفد الموساد للخرطوم عشية تنفيذ الانقلاب، ربما لتقديم الدعم والمشورة للعسكر. وأفاد الموقع ذاته أن حميدتي كان قد زار الكيان بشكل سري قبل أسابيع من الانقلاب. وكان رئيس الوزراء حمدوك قد رفض فكرة العسكر التي تقول إن التطبيع مع الكيان الإسرائيلي يساعد البلاد على العودة إلى المجتمع الدولي ويوفر لها القروض من البنوك الدولية. لذلك عارض شروع البرهان بالتطبيع، عندما التقى لأجلها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في عنتيبي بأوغندا. واتفقاً يومها على بدء المباحثات من أجل تطبيع العلاقات. وعلى إثرها أفاد حمدوك أنه لم يتم إخطار وزارته بهذا اللقاء، وقال إن أي تطبيع من هذا القبيل يحتاج لموافقة المجلس التشريعي الذي ماطل العسكر بتشكيله.  غير أن هوى العسكر، ربما ينحو نحو الكيان الإسرائيلي، وربما يعتبرون أن العلاقة معه، قد تغنيهم عن بقية دول العالم.