كورونا والعلاقات الإنسانيّة

 فرض وباء كورونا نفسه في كلّ أرجاء المعمورة على الحجر والبشر، وتسبّب في متغيّرات وتحوّلات كبيرة على كافّة الصعد السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة، القانونيّة، الثقافيّة، التربويّة وغيرها، وأدّى إلى خسائر كبيرة في الأرواح فعشرات الآلاف من الضحايا فارقوا الحياة في مختلف أنحاء العالم، وكذا فرض نفسه الوباء على كافّة العلاقات البشريّة الإنسانيّة والتزم الكون بعيد انتشاره وفي حضرته بما عرف بالـ "التباعد الاجتماعي" فكان لذلك أثر كبير على أنماط وعادات وتقاليد التواصل الاجتماعي.

ما قبل كورونا كان للتكنولوجيا هيمنة كبيرة على العلاقات الإنسانيّة الإفتراضيّة منها والحقيقيّة، وقدّم نموذجاً مُختلفاً من التباعد الإجتماعي غير المرتبط بقوانين وقواعد ونُظُم، ورغم أن العديد من الدراسات والأبحاث أشادت بقدرة التكنولوجيا على تقديمها وسائل مُتقدّمة للناس تستطيع من خلالها التواصل مع من كان وأينما كان بالصوت والصورة إلّا أنّ آثاراً سلبيّة كبيرة انعكست على العلاقات الأسرية وعلاقات الأفراد حيث باتت جافّة وخالية من المشاعر والعواطف والأحاسيس واكتفى الإنسان من خلالها بالتعبير من خلال الرسائل النصيّة والرموز الرقمية التعبيريّة والتفاعلات البصريّة والسمعيّة التي تفرّق بينها المسافات. فهل لعب وباء الكورونا رغم اعتباره بأنّه حلّ كمصيبة كبرى على البشريّة جمعاء، دوراً إيجابيّاً على العلاقات؟! أم أنّه بات إلى جانب التكنولوجيا سبباً إضافيّاً بتفكيكها؟ّ

مع تعاظم حدّة تداعيات هذا الوباء الصحيّة، بدأت الدول تتّخذ قرارات حازمة حيث أعلنت عدداً من الإجراءات الوقائيّة التي من شأنها أن تحدّ من انتشار الوباء وتأثيره وآثاره واتفق العالم على ضرورة نشر الوعي حول أهميّة "التباعد الإجتماعي" وترجمته بمجموعة من القوانين والقواعد والنُظم التي تربط المفهوم بالممارسة الإجتماعيّة الشاملة والكاملة؛ ومعظم الدول قامت بإقفال كافّة الأماكن العامّة والخاصّة التي تعتبر مراكز تجمّع وحشد بشري. ترافق هذا مع سياسة الحجر المنزلي وإعلان حالة التعبئة التي فرضت بدورها إجراءات صحيّة وقائيّة مُلزمة تمثّلت بعدم الخروج من المنازل سوى للضرورة القسوة وفرضت اتخاذ التدابير الصحيّة مثل ارتداء الكمّامات والقفّازات وتجنّب التحيّة باليد وإلى ما هنالك من تدابير باتت معروفة وبذلك عطّل هذا الوباء الحياة بشكل شبه كامل.

وكان لهذه الإجراءات الصارمة انعكاسات نفسيّة خطيرة على كافّة الشرائح الإجتماعيّة حيث قد يؤدّي الحجر المنزلي الى ضغوطات نفسيّة قاتلة على الأهل والأبناء على حدٍّ سواء حيث ازدادت المشاعر المرتبطة بالملل والضجر والخوف والعزلة والشعور بأنّهم سجناء ومعاقبين، كلّ هذه المخاوف وأهمّها المتعلّقة بالحياة والموت والمرض والشفاء، دفعت بمجتمعاتنا الموصوفة والمعروفة بعشقها للعلاقات الإنسانيّة والتقارب الإجتماعي والتجمّع واللقاء بأن تغيّر بالعديد من العادات والتقاليد ومنها السلام والتقبيل واحتضان الأحبّاء والأقارب والأصدقاء والرفاق والمعارف في مناسبات الفرح والحزن.

بدأ مفعول التباعد الإجتماعي والحجر المنزلي يفرضان نفسيمها على أرض الواقع، فاتخذ الناس حذرهم بطرق وأساليب التواصل مع الآخر، سواء في الخاص المرتبط بالعلاقات الأسرية وسواء بالعام المرتبط بالعلاقات الإنسانيّة والمناسبات الإجتماعيّة، فبالنسبة للتواصل وأساليبه على صعيد العلاقات الإنسانيّة والمناسبات الإجتماعيّة، بتنا نرى وجها آخر فيه معايير مختلفة وإجراءات وقائية، فبدأ الناس بالتقليل من الزيارات العائليّة وزيارة الأحبّاء والأصدقاء، وتمّ التقليل من إرتياد مناسبات الفرح والحزن. وفي الحالة الأخيرة، بدأت تقبل المواساة من خلال الاتصال بأهل الفقيد عبر الهاتف فقط.
وحين فتحت المطاعم والمقاهي أبوابها للعامّة، أجبرت روّادها على ترك مسافات بين الطاولات والمقاعد وإجراءات التعقيم والالتزام بمعيار تواجد نسبة معيّنة من الزبائن داخل صالاتها كذلك الأمر بالنسبة للمحال التجاريّة في هذا الأمر، حتّى وإن اضطر الناس للقاء ببعضهم البعض واضطروا أن يقوموا بإلقاء التحيّة في بعض المناسبات تجدهم يلتزمون بالسلام عن بعد وتعقيم أيديهم والحفاظ على المسافات فيما بينهم سواء في أماكن العمل أو في أماكن لقائهم أينما كانت مناسبات وسبب اللقاء.

أما على صعيد الحجر المنزلي وآثاره على العلاقات الأسريّة، فإنّ العديد من الدراسات تؤكّد الانعكاسات الإيجابيّة للعلاقة بين الأهل وأطفالهم فيما يتعلّق بالتواصل والتفاعل والتعاطف، حيث منح الحجر المنزلي والالتزام بالبقاء في البيت لفترات طويلة، منح الأهل والابناء وقتاً كان قليلاً جداً قبل انتشار هذا الوباء بسبب طبيعة الحياة السريعة التي كنّا نعيشها. فنجد في نموذج اليوم صواب ما كان يقوله الباحثون من تحذيرات التباعد الاجتماعي الذي فرضته التكنولوجيا والمتمثّل بالأوقات التي يمضيها الأهل والأطفال على الهواتف الذكيّة واللوحات الذكيّة الرقميّة وحيث كانوا يطلبون من الأهلي التفاعل والتواصل أكثر مع أطفالهم نظراُ لما للتكنولوجيا واستخدام وسائلها مخاطر كبيرة على حياة أطفالهم على كافّة الصعد النفسيّة منها والجسديّة والعقليّة والأخلاقيّة والعاطفيّة، وتبيّن ما بعد الكورونا أنّ الأهل الملتزمون بالحجر بدأوا يقضون وقتاً أكثر معهم ويتواصلون معهم أكثر ويقومون بمشاركتهم همومهم وهواجسهم وأنشطتهم سواءً كانت ترفيهيّة أو تعليميّة، وباتوا يتشاركون معهم الإدارة المنزليّة والأعمال المنزليّة، وارتفع منسوب التعاطف والشعور ببعضهم البعض وباتت العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة إيجابيّة أكثر، ولكن مع الأسف تشير دراسات أخرى إلى أنّ العنف الأسري يزداد مع الوقت بسبب الضغوط الماديّة والنفسيّة التي تتعرّض لها الأسر بسبب تعطّل الأعمال وارتفاع غلاء المعيشة الذي تسبّب به الوباء.

في كل الأحوال لكل حدث دائماُ وجه سلبي وآخر إيجابي، ولكنّ ذلك يفرض على الدول أن تتوخّى الحذر دائماُ وأن تتخّذ إجراءات احترازيّة أخرى طبيعيّة  لمواجهة الأزمات ومعالجة قضايا الشعوب وأن تكون دوماُ جاهزة ومستعدّة لدرء المخاطرعن الناس وتقديم الخدمات والتقديمات الإجتماعيّة اللازمة للناس للحفاظ على حياتهم ومعيشتهم وكراماتهم.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 379
`


أيمن مروة