قراءة في مشروع الوثيقة الفكرية السياسية البرنامجية للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي (3)

للبحث عن نقاط إلتقاء مع قوى المقاومة والقوى الإقليمية للتصدي للامبريالية والصهيونية، لا التفتيش عن نقاط الاختلاف معها.

أفرد مشروع الوثيقة الفكرية السياسية البرنامجية التي أقرتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني لمناقشتها تحضيرًا للمؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب، حيزًا لافتًا للتقرير السياسي الذي عالجته الوثيقة بأكثر من مئة صفحة، حيث تناول قضايا دولية وعربية رئيسة بدءًا من أزمة الرأسمالية العالمية وتجلياتها مرورًا بالهيمنة الاميركية والأطلسية وسماتها، وانتفاضات الشعوب العربية على الواقع الحالي مستعرضًا آفاق المواجهة، وفي هذا السياق تحدثت الوثيقة عن وجود ثلاثة خيارات تتحكم بالواقع العربي الذي تعاني شعوبه من الاحتلالات والتدخلات الخارجية ونهب الثروات، وتدمير بنية الدولة ومؤسساتها كما تدمير الاقتصاد والبنى التحتية والتراث والإرث الثقافي، ومن سياسات الاستغلال الطبقي من أنظمتها، ما يؤدي إلى وجود مستويات عالية من الفقر والبطالة والهجرة، كما القمع والاستبداد وانسداد الافق السياسي. ورأت أن ذلك ترافق مع تراجع الدور الفاعل لقوى اليسار والتقدم في العقود الماضية لأسباب موضوعية مرتبطة بانهيار المنظومة الاشتراكية والقمع الذي تعرضت له في المنطقة خلال عقود طويلة سواء على يد الأنظمة الرجعية أو على يد الأنظمة القومية في العراق وسوريا والسودان ومصر وإيران والخليج، كما لأسباب ذاتية عديدة. وبالتوازي مع هذا التراجع، تقدمت قوى الاسلام السياسي، وبشكل خاص جماعة الاخوان المسلمين مستفيدة من وجودها الشعبي التاريخي وتنظيمها وعلاقاتها مع قوى إقليمية ودولية، فتمكنت من الاستفادة من انتفاضات الشعوب العربية في العام 2011 لتحقيق مكتسبات سياسية موقتة، ما لبثت أن انهارت لمصلحة الجيوش وامتدادات الأنظمة السابقة. وبالتوازي تقدمت قوى الاسلام السياسي المرتبطة بالجمهورية الاسلامية في ايران، وارتكزت على تحالفها مع سوريا ودعمها لعدد من فصائل المقاومة الفلسطينية لتطرح نفسها كقوة مواجهة ومقاومة ضد المشروع الاميركي في المنطقة، غير أن القصور السياسي الذي تعانيه هذه القوى، والتي لا تمتلك موقفا مناوئا للرأسمالية كما للنظم التبعية والمذهبية، واقتصار مواجهتها على الجانب القومي والديني وحده، يجعلها بعيدة عن مفهوم حركة التحرر الوطني العربي، من منظورنا الماركسي، بحيث تشكل الثورة الوطنية والثورة الديمقراطية والثورة الاشتراكية، مشروعا واحدا متكاملا. لذلك ذهبت الوثيقة الى الحديث عن وجود رأي آخر في النقاشات يقول: إن المرحلة الحالية هي مرحلة الدفاع عن الوجود والبقاء والاستمرار، والاستهدافات الامبريالية والصهيونية للمنطقة تتخطى كلاسيكية الدولة المستقبلية وشكلها، فتحت شعار تعميم الديمقراطية دمرت دول، وتحت شعار محاربة انظمة الاستبداد، انخرطت الولايات المتحدة مع مستبدين لتعاقب دول تجرأت ورفضت الخنوع لها، لتفتيت المقسم من الدول وتجزئة المفتت بين الاثنيات والقوميات، وتفجير هذه الصراعات إمعانا في تدمير كل مقومات الدول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن هنا تطرح الوثيقة المهمة الأولى التي يجب على الشيوعيين التصدي لها وهي فهم المرحلة الحالية ومخاطرها واستنباط أولوية المهام في مواجهة أولوية أهداف المخطط المرسوم لمنطقتنا. إن مرحلة التحرر الوطني تتطلب، ومثلما ينكب الجهد الاستثنائي على التفتيش على نقاط التقاء مهما كانت ضعيفة مع قوى ومشارب اجتماعية بهدف تجميع قوى الانتفاضة لخلق ميزان قوى يفرض التغيير الداخلي، ينبغي على الشيوعيين، وبناء على الارث التاريخي في مقاومتهم للعدو، أن يبذلوا الجهد ذاته في التفتيش على نقاط الالتقاء مع قوى المقاومة الحالية ومع القوى الاقيليمية التي تتصدى اليوم من مواقعها للهجمة الامبريالية والصهيونية، لا التفتيش على نقاط الاختلاف معها، والتي مهما كانت كثيرة تبقى أقل بكثير من تلك النقاط التي نختلف فيها مع قوى اجتماعية وطبقية عملنا أو حاولنا أن نعمل معها بهدف تجذير الاتفاضة.

وبعد تشخيص الأزمة العميقة التي يعاني منها لبنان منذ نشأة لبنان الكبير وحتى يومنا هذا، اعتبرت الوثيقة ان عامي 2011 و 2016 محطتا انعطاف حاسمتان في مسار الأزمة، إذ مهدتا السبيل أمام الانهيار الاقتصادي العظيم عام 2019 الذي ارتدت تداعياته أشكال غير مسبوقة في تاريخ التشكيلة الرأسمالية التابعة التي لطالما تغنّت بتشريعاتها "الليبرالية" القادرة، بحسب زعمها الايديولوجي، على استيعاب الصدمات في كل زمان ومكان. وصبّت هذه التداعيات في نواح سياسية واقتصادية واجتماعية متداخلة ومتزامنة وذات مفاعيل خطيرة متراكمة. فعلى الصعيد الاقتصادي، برز أهم هذه التداعيات في الانخفاض القياسي في قيمة الناتج المحلي، بنسبة يقدرها البنك الدولي بنحو 40 % خلال عامين، وفقدان السيطرة على عجز المالية العامة والدين العام وسط ميل الايرادات العامة للتراجع بحدة أكبر من تراجع النفقات العامة، وإفلاس القطاع المصرفي الذي عزز المخاوف على مصير ودائع الناس وتسبب، بالتواطؤ مع أركان السلطة، بوقف تحويل رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية إلى الخارج، والسقوط العظيم لسياسة التثبيت النقدي الذي عكسه تعدد أسعار صرف الليرة تجاه الدولار للمرة الأولى في تاريخ البلد في وقت بات فيه السعر الرسمي لليرة يقترب من 10 % من سعرها الحر، يضاف الى ذلك أيضا، إعلان الدولة الصريح عن تعثرها المالي ووقف سداد ديونها الخارجية بدءا من آذار 2020 (سندات اليوروبوندز) بالتزامن مع انفجار أزمة السيولة والملاءة في القطاع المصرفي.

في سياق حديث الوثيقة لانتفاضة 17 تشرين 2019 فقد اعتبرت أن المنظومة الحاكمة استخدمت ضدها كل ما ملكت ايديها من وسائل طالما برعت باستخدامها في كل محطة تتعرض فيها سلطتها للخطر، ومن القمع الذي مارسته القوى الأمنية الرسمية ضد المنتفضين، الى ركوب بعض أطراف المنظومة الحاكمة موجة الانتفاضة كالمستقبل والقوات والكتائب بهدف تحويرها وسرقة أهدافها، إلى قمعها من بعضها الآخر (حزب الله – امل – الاشتراكي)؛ مع استخدام جميع الأطراف "شوارعها الطائفية"؛ كما ضاعفت الولايات المتحدة الاميركية مع حلفائها من تدخلات سفاراتها حيث عمدت إلى دعم أحزاب ومؤسسات اعلامية وجمعيات مدنية وأغدقت عليها الأموال الطائلة لتنفيذ أجنداتها السياسية، وهي جمعيات معروفة ومرخص لها من قبل المنظومة الحاكمة قبل الانتفاضة وخلالها. لقد دارت مواجهات مع المنتفضين في معظم ساحات الانتفاضة وسقط شهداء وجرحى لها، وتعرّض المئات من المنتفضين للاعتقال والمحاكمة الجائرة، حيث اسفرت نتيجة هذه المواجهات عن استقالة الحريري في 29 تشرين الاول 2019 في اليوم الثالث عشر للانتفاضة وعن سقوط التسوية الرئاسية.