على حافة الثورة

عكس ما آلت إليه الأمور ليلة السابع عشر من تشرين، تبدو القرى الجنوبية سيما تلك التي عرفت بالشريط الحدودي معزولة تماماً عما يحصل في الشارع اللبناني وتحديداً مع "الموجة الثانية للإنتفاضة".


إنها المرة الثالثة التي تبدو فيها تلك المناطق معزولة بتاريخها الحديث، بعد أن خبرت عزلها الأول مع الإحتلال، والذي بالكاد خرجت منه وبدأت تتعرف على الدولة وجدت نفسها في عزلها الثاني أثناء عدوان ٢٠٠٦، فما هي العوامل التي تراكمت وأنتجت هذا اللاموقف الذي لا يشبه ما عرفناه عن أهالي هذه المنطقة الذين ما ركعوا لحاكم منذ الإحتلال العثماني، فإدارة الحلفاء والإنتداب الفرنسي، وصولاً إلى الإحتلال الصهيوني؟
أولاً: النمط الاقتصادي
حتى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن المنصرم بقي الجنوب معتمداً بشكل رئيسي على الزراعة لسد قوته، ويوم اشتدت الحرب اللبنانية لم يكفِ الجنوبيين ضيق الحال الذي تسبب به إنهيار الليرة، بل وجدوا أنفسهم قابعين تحت إحتلالٍ لا يرحم زاد من معاناتهم ولم يفوّت فرصة لإستغلال أوضاعهم المعيشية، فإنقسم الجنوبيون لأول مرة في تاريخهم الحديث إلى ثلاثة، مغيّرين نمط معيشتهم ورزنامة أولوياتهم التي لم تنتهِ مفاعيلها حتى اليوم.
قسمهم الأول الذين تشبثوا بأرضهم سواء على شاكلة مزارعين ام نازحين إجبارياً إلى الساحل اللبناني، حالمين بالعودة فكانوا خزان دماء لأي نشاط مقاوم على إختلاف الجبهات والتيارات المقاومة، والقسم الثاني قرّر الهجرة بحثاً عن الأمانين الجسدي والمادي، فكانوا مصدر الدخل الجديد والنبع الذي ما جفّ حتى يومنا.
ولأن المجتمعات بطبيعتها ليست كاملة مهما ادّعت الكمال، كان الجزء الثالث فريسة سهلة للعدو من جهة ورغباته من جهة، فوقعوا تحت عرض المئة دولار التي عرضها الإحتلال على من يلتحقون به حيث كان راتب الأستاذ حينها لا يتجاوز الخمسة آلاف ليرة سنوياً، فكانت مصدر الدخل الثالث الذي روّض نفوس الكثيرين على الكسب من بطالة مقنّعة زاد من فرص نجاحها الفرصة التي تعطيها في السلطة والتسلّط لأناس طالما أذلّهم الإقطاع، تطورت المئة وصارت مئات وصاروا هم عملاء.

ثانياً: مفهوم الدولة لدى أبناء الشريط، متأخرون عقداً كاملاً عن باقي اللبنانيين، عام ٢٠٠٠ إنضم أهالي الشريط الحدودي إلى كنف الدولة التي كانت قد تشكّلت من ميلشيات الطائف وضربت جذورها، دخلوا ودخلت معهم أحلام لامست الخيال بغدٍ مشرق وبدأت الرحلة مع إستكشاف دولتهم وقريباً أنفسهم،
عام ٢٠٠٠ عاد قسم كبير من المقاومين والمبعدين إلى بلداتهم حاملين إليها بشارة رفع الذل والقهر عنها وعادات ومفاهيم جديدة لم يختبرها جيل كامل تحت الإحتلال ألا وهي الأحزاب والدولة أي السياسة اللبنانية برّمتها. وبالتزامن بطبيعة الأحوال فقدَ المجتمع أحد مصادر دخله ألا وهو الميلشيات والعمل داخل الكيان، كما تبدّلت التركيبة الإجتماعية حيث بات حاكم الأمس منبوذاً ومقهورو الأمس أعزّاء حاكمين، وكان من البديهي أن يسدّ كلّ فراغ هواء ما، فكان لسدّ الفراغين نصيبهما، الأول خط عقائدي مقاوم أثبت جدواه يوم معركة ٢٠٠٦ وكان المال أحد إيجابياته التي تكاد لا تذكر مقابل إيجابياته الأخرى وزهد الكثيرين من أركانه "العناصر".
والثاني مصالحي أنسته سنوات الحكم العشر ثوابته، فأصبح لا يمكن تميّزه عن خطوط ما قبل الإحتلال (الولاء مقابل الوظيفة والمال)
فكان لهذين الخطين المتصارعين حينها حصة الأسد من الإستقطاب الشعبي لأنهم الأقدر على توفير الخدمات مقابل يسار مشلول حينها بالكاد يستطيع تقديم المحبة والمصداقية للناس والتي لم يكونوا بحاجتها، بل أكثر من ذلك تناسوا فجأة كل تضحياته أمام آلات إعلامية وبمعركة غير كفوءة البتة، علماً إن ذلك لا يعفي هذه الأطراف من تقاعسها بحق أنفسها وأناسها ونحن منها.
مع إغتيال الحريري عام ٢٠٠٥ وجد الطرفان المتصارعان حينها "أنفسهم" أمام خيار لا مفرّ منه وهو التحالف لتشكيل قوّة تستطيع مواجهة تحديات المرحلة، فدخل حرب الطوائف من جديد زاجين معهم المجتمع بأسره، على قاعدة لك السلاح ولي المناصب، فحكم الثنائي بماله وسلاحه و"قضيته الجديدة "، مختصرين بأنفسهم الدولة.

ثالثاً: الأمان (الجسدي والمادي)
ما إن حطت حرب ٢٠٠٦ أوزارها على إنتصار عسكري شعر الجنوبيون للمرة الأولى إنهم بمنأى عن الخطر الصهيوني الذي هدّدهم منذ نشأته متزامناً مع بزار إعادة إعمار كان لحليف المنتصرين عسكرياً حصة الـ ٥١٪؜ من مكاسبه دون أن يطلق أي رصاصة، فقط كلمة أنتم شركاؤنا في خطاب لحظة نشوة الإنتصار.
ليدخل الجنوب أيام بحبوحة أنست الكثيرين شهداءهم، تحت وطأة المال العربي والدولي
لتتوالى صراعات الداخل والمنطقة فرآكم معها أحد أقطاب الثنائي فائضاً من الفساد وسياسات الإفقار فيما كان الطرف الآخر مشغولاً بحروب عزّزت ثقته بنفسه وثقة شعبيته فيه بغض النظر عن آراء أي أحد فيها.

ليلة ١٧ تشرين المفصلية...
كالزلزال دون أي سابق إنذار أو تخطيط، إنفجر أبناء الشريط في الشوارع أسوة بباقي الطبقات المسحوقة في دولة المحاصصة الطائفية، نزلوا مواطنين ومؤيدي أحزاب غير منظمين، وخاضوا جولتهم على أكمل وجه في وجه النظام، أشعلت الإطارات، هوجمت مقرات نواب المنطقة، والجميع توهّم إن قيادة إعتادت مؤازرة الحق ولو في اليمن لن تخذلهم بحق واضح كهذا؛ فكانت المفاجأة التي والصدمة التي أعلنتها العصي والحجارة من صور إلى بنت جبيل فالنبطية قبل إعلان القيادات موقفها الواضح.
قُمعَ أهل الشريط بمشهد لم يتجرّأ على مثيله الإحتلال، في مسرحية لم تنتهِ إلى اليوم بمفاعيل التخوين وإطلاق الشائعات على من تسوّل له نفسه الثورة، كل ذلك كان دفاعاً عن حفنة فاسدين أثبتت الإنتخابات الأخيرة إنهم وبأفضل أيام شدّ العصب بالكاد يُرَون.

رابعاً: تحديد المصير والأولويات...
مروراً بالأزمة الصحية وتفاقم الأزمة الإقتصادية ومع تخطي الدولار الـ٤٢٠٠ ليرة لبنانية، يمكن لأي شخص سواء من أحاديث الناس أم النظر في وجوههم إلتماس كتم الغيض الذي يتفاقم بين الأهالي.
لديهم الكثير مما يمكن تقديمه لهذه الثورة التي يتوقون إليها، لديهم مثالاً لا حصراً الكثير من المصارف ليشعلوها، وكثير من الطرقات ليقطعوها، ومثلها من السلاطين ليوقفوها عند حدّها،
لكنهم وبفعل القمع من جهة والخوف من فقدان مكاسب حقبتهم السابقة ما يزالون يتوهمون وجود الوقت لبناء طريق الأفعى خاصتهم للعبور.
يكسر صمتهم أصوات طائرات العدو تارة لتذكرهم إن لا غنى عن القوة، وخطابات عنترية وتحريضية تارة أخرى تقول إن هذه القوة قلبها معكم وسيوفها عليكم، ويقطع الصوتين سكون أمعاء باتت شبه خاوية لن تجد بعد ضالتها بأن المقاومة لا تكون إلّا شاملة ضد الإحتلال والفساد، وإن التفريط بأي من الجزئيتين والمماطلة بالوقت سيدفّعهم الثمن المزدوج.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 376
`


على حافة الثورة يوسف عباس