اليسار أمام التحدّي النسوي

 

"إن كان تحرر النساء بعيداً بدون الشيوعية، فالشيوعية مستحيلة بلا تحرر النساء" - 
إينيسا أرماند


يحقدن النساء على نظام أبوي همشهن، قمعهن واستغلهن، ويمعن في هذه الممارسات حتى اليوم. يبحثن عن فرص للتعبير، عن صدى لصوتهن، لتشخيص مشاكلهن، والتحدث عن معانتهن، والعمل لتنظيم هذا الغضب وتوجيهه بوجه النظام وحرّاسه. كما يخفن من أي مساحة تفترض أنها بيئة مساعدة لهن. يصطدمن بمحاولات إسكات، تحرش، وإستخفاف، ويرتبطن حكماً بأزواجهن أو آبائهن أو أشقائهن.
لعب اليسار تاريخياً دوراً رائداً في دعم حقوق النساء، فيما يقف اليوم في الصفوف الخلفية متفرّجاً أو منتقداً، أو متصدٍ لأيّ محاولة بحجة أولوية الصراع تارةً، وإلباس الصراع ثوب العمالة والتبعية الغربية تارةً أخرى. يعود انخراط النساء الخجول في العمل السياسي الى تراجع دور اليسار بشكل عام منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، الى جانب عسكرة الأحزاب جرّاء الحرب، وتخبّطه بين هويته وأزمته. ضياع الهوية وغياب خط واضح ينعكس على جميع الفئات الحزبية. تذوب الترسبات الأخلاقية – الاجتماعية في صفوف الأحزاب اليسارية، ويظهر خطاب الثنائية، الذي يصنّف كلَّ شيء وفق منطق الأبيض والأسود، الصح والخطأ، بما يحمله هذا الخطاب من أبعاد دينية لفكرة الجنة والنار. هذا الجمود الفكري والقوالب الثابتة تشكّل قلعة الأحزاب والتيارات الرجعية، في وقت يفترض أن تمثّل الاحزاب اليسارية الجناح التقدمي في الحياة السياسية، وبخاصة الأحزاب الماركسية، وأن لا تضع فيتو على أي نقاش وتحليل وإعادة قراءة لأي موضوع، فكلّ نواحي الحياة قابلة للنقاش والتحليل الماركسي.
تناول ماركس وانجلز قضية النساء عبر التركيز على شكل العائلة البرجوازية في البيان الشيوعي، دون الغوص في تأثير العائلة على دور النساء السياسي والاقتصادي، هذا ولخصت نظرية ماركس حول الاغتراب والسيطرة وعدم المساواة والاستغلال، ونقد العلاقات الاجتماعية التي تؤدي إلى هذه الظروف، والتي لها آثار واضحة على نظرية المساواة بين الجنسين والتحرر. مواقف الحياة اليومية التي تحصل في ظل النظام الأبوي والتمييز، وتخصيص العلاقات الاجتماعية المحددة للسلطة والقوة والهيمنة على أساس الجنس، بما في ذلك الزواج والأسرة ومكان العمل، تخلق جميعها حالة اغتراب للمرأة. تمتد نظرية ماركس حول الاستغلال إلى العلاقات الاجتماعية في النظام الأبوي. تجسِّد البطريركية ونظام الأسرة البرجوازية ماهية استغلال المرأة داخل الأسرة ومكان العمل في آن.
لاحقاً درس انجلز تاريخ تطور العائلة والدولة ربطاً بتغيير أنماط الإنتاج وانعكاستها، وقدّم فرضية تاريخية لظهور الأسرة المزدوجة وهي ظهور الملكية الخاصة والعبودية، وخلص الى أنه "في العائلة يمثّل الرجل البرجوازية، والمرأة الطبقة العاملة". كما أعطى المنظّرون الاشتراكيون والشيوعيون أهمية خاصة لقضايا النساء، في العقود ما بين 1880 و 1920، وشكلت قضايا تحرّر النساء في الأجندة الاشتراكية عند كلارا زيتكن وروزا لوكسمبورغ ونيكولاي بوخارين وليون تروتسكي وألكسندرا كولينتاي.
وضعت الشيوعية في الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا المساواة بين الجنسين على رأس جدول أعمال التحوّل الاجتماعي. أكد الخطاب السياسي البلشفي على مساواة المرأة كهدف شيوعي مركزي قبل الثورة وخلالها. في عشرينيات القرن الماضي، أنشأت حكومة الاتحاد السوفيتي إطاراً قانونياً يضمن المساواة القانونية للمرأة، المواطنة الكاملة، والأجر المتساوي، والحق في الطلاق. كان قانون الزواج والأسرة والوصاية وثيقة قانونية مهمة بهدف إرساء المساواة بين الجنسين. كما وضع الحزب الشيوعي الصيني تحرّر المرأة كأحد أهدافه الثورية الرائدة، وبذل قادة الحزب الشيوعي الصيني جهوداً محدّدة لتعبئة النساء في مناطق القاعدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
على الرغم من ذلك، لا تزال هناك علاقة جدلية بين الأحزاب الشيوعية والنسوية، إذ يعتبر الشيوعيون أن دخول النساء سوق العمل وانخراطهن في عملية الإنتاج تحقق مساواة مع الرجل، وعليه لا حاجة للنضال النسوي في ظلّ نظام اشتراكي، والى حين تحقيق هذا النظام، يجب التركيز على الصراع الطبقي. إلّا أن النساء والفئات المهمشة، من المثليين وعابري جنس والمتحولين جنسياً وغير الجنسيين والأطفال واللاجئين، ليسوا عمالاً، بل فئات هُمّشت بناء على موقعهم الجنسي الخاضع لسلطة المال المعطاة تاريخياً للرجل. تظلم هذه الفئات عبر دمجها في الصراع الطبقي، في وقت تشكل الأحزاب اليسارية، التقدمية، مساحة نقاش وجدال لكلّ مناحي المجتمع، دون قيود وممنوعات على أفكار، عبر الاستسلام لمسلمات رسختها المنظومة الاخلاقية والقيمية للنظام الأبوي.
انخراط النساء ضمن الحيّز العام سيؤدّي حكماً الى تهديد امتيازات الرجل، وفي هذه الحالة، تقول سيمون دو بوفوار، لن يتصرّف الرجال كشيوعيين أو يساريين، بل كرجال، فالأحزاب اليسارية مثل أيّ حزب آخر يهيمن عليه الرجال، ليس من مصلحتهم محو الامتيازات الخاصة بهم، وصاحب الامتياز سيرغب حتماً في الحفاظ عليه.
يختلط العام والخاص في واقع غياب النساء عن العمل السياسي في الأحزاب اليسارية. ارتبط العمل السياسي بالقوة والسلطة، وبالتالي انحصر بالرجال. وإن اخترقت النساء هذا الحيز، إلّا أن بعض التفاصيل اليومية تظهر مدى هشاشة هذا الانخراط. تتردّد بخفّة نقمة سكان بيت واحد من مزاولة الوالد على مشاهدة نشرات الأخبار والبرامج السياسية، فيما تنشغل المرأة في رعاية الأطفال ومتابعة مسلسلات مدبلجة. شعور النساء أن العمل السياسي ليس من اختصاصهن يعود بدوره الى تقسيم اجتماعي للأدوار الذي انعكس على علاقة النساء بالشأن العام. تشرح سيمون دو بوفوار في كتاب "الجنس الآخر" كيفية تشكل واقع تشكل النساء، اذ يقوم وفق شرطين ماديين، الأول تاريخ المجتمع والحضارة التي ولدت فيها، والثاني تاريخها هي، خاصة في طفولتها. في بلد تتعدّد فيه الثقافات والبيئات وأنماط الحياة، يصعب على النساء فهم ماهية القمع الذي يتعرّضن له. إذ تتعدّد أشكال القمع ومستوياته حسب البيئة والخلفية، وإن كانت ذات طبيعة واحدة، وهي المحاولات الدائمة لإبقاء النساء خاضعات للسلطة الأبوية.
يعكس ازدياد عدد الرافضات لهذا الواقع فهم النساء أن ضربهن وقتلهن ومنعهن عن ابسط حقوقهن ليس أمراً طبيعياً، ولا معطىً بيولوجياً مرافقاً لجنسهن. هنا يبدأن بالبحث عن منبر لهن، عن مساحة أمان لكي يفكّكن هذا الواقع بغية فهمه وتغييره. في غياب اليسار، كبديل سياسي، سيطرت الجمعيات على العمل النسوي، الذي يقوم معظمها على تسطيح الصراع، وتفريغ النسوية من أبعادها، وتقديم أفكار ترضي الجهات المانحة والمموّلين.
يسهل على نخب اليسار وجمهوره تفكيك خطاب الجمعيات، وفهم الدور الذي تلعبه في الشأن العام، كما يسهل عليه إغراق الرفيقات بجمل حول قيمتهن الجمالية والناعمة على الجوّ الحزبي المحتدم. لكن يقف حائراً أمام واجبه في تبنّي قضايا النساء، دون الذهاب الى منطق أولوية الصراع، فإن كان الرفيق يواجه الرأسمالية، فالرفيقات يواجهن الرأسمالية الذكورية معاً، وتغدو المعركة أصعب يوم بات علينا كسبها أولاً حزبياً.