حول الشراكة العربية الصهيونية

عبر 135 يوماً من المجزرة الصهيونية في قطاع غزة، يتردد في الفضاء العربي مصطلح "الشلل العربي" إزاء ما يتعرض له القطاع من إبادة جماعية، الشلل الذي يوحي بالسلبية هو مصطلح لا يصف بدقة الدور العربي إزاء المجزرة، إن الشلل الذي هو حالة طبية يعجز المريض بها عن الحركة أو عن أداء وظائفه الطبيعية، فهل ما يمارسه المحيط العربي عجزاً أم إرادة قاطعة وشديدة الوضوح في انحيازها.

ليس للنظام العربي الرسمي إرادة لإيقاف المذبحة، لأن تلك الإرادة كانت لتنعكس في مجموعة من الإجراءات البديهية وشديدة الوضوح، تتدرج من قطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني وطرد بعثاته الدبلوماسية إلى إيقاف التعامل التجاري وإحكام الحصار على العدو، انتهاءً بتشكيل قوة عربية تفرض دخول المؤن العسكرية وغير العسكرية للمقاومة الفلسطينية، قطع تصدير البترول للدول الداعمة للعدو في غزوته الهمجية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية وانتهاءً بإعلان الحرب.
تلك الإجراءات هي المعبر الحقيقي عن إرادة عربية حقيقية لمواجهة حرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدو على الشعب الفلسطيني منذ 7 أكتوبر الماضي، وهي إجراءات تعبر أساساً عن إرادة حرة ومتحررة من قيود التبعية، إلا أننا لا يمكننا أن نركن إلى هذا التوضيح الناقص، فالتبعية في الأساس ليست سوى قرار طبقي أي أن الأنظمة التابعة ليست أنظمة مخطوفة، إنها أنظمة ذات مصلحة طبقية واضحة في التزاوج مع النظام الإمبريالي العالمي والانخراط فيه من موضع التابع، ولا يوجد ما ينفي هذا سوى أن تنخرط تلك الأنظمة في معركة ضد هذا النظام ذاته، ضد قيوده، هذا الانخراط في هذه المعركة يعد أحد تجلياته تعزيز صمود الشعب الفلسطيني وتعضيد قواه المقاتلة.
إذن لدينا هنا نظاماً عربياً رسمياً جزء من نظام عالمي يقاتل بقضه وقضيضه لتفكيك المقاومة الفلسطينية، ولدينا نظاماً عربياً يشارك بإرادة ووعي كاملين في إنفاذ إرادة الصهيونية والإمبريالية تلك. وتشارك مكونات هذا النظام العربي في المهمة بتكامل جلي، تكامل فرقة موسيقية تعزف نفس النوتة بقيادة مايسترو الاحتكارات الدولية التي تريد استكمال سحق إرادة هذه المنطقة والاستيلاء الكامل على مقدراتها وتأمين هذا الاستيلاء لأطول زمن ممكن.
ليست المهمة التي يؤديها النظام العربي الرسمي بجديدة، فهذا النظام كان جزء من ترتيبات استيلاء الصهيونية على فلسطين، وكان جزء من مؤامرة ضرب الثورة الفلسطينية في الأردن، كما كان جزء من معركة طويلة امتدت لسنوات ضد قوات الثورة الفلسطينية في لبنان، ثم كان هذا النظام جزء من كل الترتيبات التي ضمنت عزل الثورة وضرب ظهيرها العربي ودفعها للهزيمة عبر صفقة مع يمينها قادت لاتفاق أوسلو، أليس هذا النظام هو من اصطفى فتح ويمين فتح بالتحديد كي تتولى في نهاية المطاف التوقيع في أوسلو؟
هي إذن قصة طويلة جداً انخرط فيها هذا النظام العربي الرسمي بكامل مكوناته، وبحسب كل مرحلة تعاظم دور هذا المكون أو ذاك في داخل النظام العربي، تبادلت سوريا ومصر الدور في التصفية، وتابعت أنظمة النفط وأوغلت، بينما حافظ الأردن على دوره في العملية باتقان مثير للإعجاب والسخرية في آن، في حين أن العراق والجزائر كدول ذات وزن استراتيجي تطلعت في فترات مختلفة لقيادة "الأمة العربية" خاضا الحرب الكلامية التي ما أنتجت شيئاً فاعلاً، ولا يجب أن ننسى الدور البارز الذي لعبته القوات العراقية المرابطة في الأردن أيام أيلول الأسود حين أحجمت عن دعم الثورة في معركتها ضد الملك حسين بعد وعود أكيدة لقيادة الثورة. بالإضافة إلى هذا فإن النظام العربي قد سعى أو انخرط حثيثاً في مسيرة تطبيع طويلة، بدءاً بكامب ديفيد ومروراً بوادي عربة ومدريد وأوسلو بالطبع، وانتهاءً باتفاقيات أبراهام بالإضافة إلى تطبيع تجاري عميق هو تعبير عن وحدة المصالح بين الطبقات الممثلة في النظام العربي والكيان الصهيوني بالإضافة للتبادل الثقافي والتعاون في مجالات الزراعة والاتفاقيات التجارية المرعية من قبل الإمبريالية الأمريكية والتي غرضها إدماج الكيان الصهيوني والاقتصاد الصهيوني في الاقتصاد الإقليمي.
هذه العلاقات العربية الصهيونية العميقة تنسف من الأساس أي تصور محتمل لموقف جدي يتخذه النظام العربي ضد الصهيونية، فليست التصريحات الرسمية سوى خطاباً إعلامياً للرأي العام العربي غرضه الرئيس نزع فتيل الغضب أمام بحر الدماء السيَّال، وتاريخ القهر والغصب.
بالإضافة إلى هذا، كان النظام العربي الرسمي ولازال فاعلاً في تديين الصراع، دعم صعود القوى الدينية على حساب القوى العلمانية في قلب حركة المقاومة، إن خلق ثنائية المسلم-اليهودي في قلب الصراع، خلق منظمات برجوازية دينية كان غرضها ضرب الطبيعة الوطنية للقضية الفلسطينية، وخلق محاور متناقضة سنية – شيعية لتفكيك قوة الدفع الهائلة التي حملتها القضية الفلسطينية واستخدامها المزمن لتلك القضية في لعبة المحاصصة والنفوذ والمساومة بها في داخل الإقليم، تلك الممارسة كانت ذات أثر مدمر، يعود النظام العربي لاستثمار ما صنعت يداه.
إننا هنا نواجه ظاهرة صار لها فعل القانون العام، تعادي الأنظمة الميليشيا، وإن صمود ميليشيا المقاومة الفلسطينية بدءاً من معركة الكرامة ثم صمودها ضد مجزرة أيلول في الأردن ثم صمودها في معراك الحرب الأهلية اللبنانية وضد الصهيونية في بيروت 1982، انتهاءً بمعركتها الأسطورية الحالية التي تطاول الشهر الخامس في ملحمة لم يستطع جيشٌ عربيٌ نظاميٌ واحد الإتيان بمثلها، ملحمة ترسم وتؤكد على أن استراتيجية حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد هي القادرة على مواجهة أساطيل الإمبريالية والصهيونية وهزيمتها، بكل ما تتطلبه حرب التحرير الشعبية من إجراءات ثورية تستهدف تغيير البنى الاجتماعية في البلدان التي يجب على شعوبها أن تخوض المعركة لتتحرر من ربقة الاستعمار، أي أن نموذج المقاومة الفلسطينية غير النظامية إنما يحمل في طياته صورة المستقبل الذي يهدد النظام العربي الرسمي.
إن النظام العربي الرسمي نشطٌ تماماً في خطة التصفية، ودبلوماسيوه في كامل لياقتهم لأداء الأدوار المرسومة لهم، في جهود الوساطة والإغاثة والإدانة والشجب والتواطؤ من تحت الموائد، ولا يُستثنى من هذا النشاط أي جزء من مكونات هذا النظام، حتى الصامتين منهم والبعيدين عن بؤرة الأحداث، فكل جزء من هذا النظام أحجم عن أداء ما يمكن أداؤه لتوسيع المعركة ضد الصهيونية هو شريك أساسي في خطة التصفية، هذا أمر لا مراء فيه، غير أن الجريمة الأشد وطأة التي اقترفتها هذه الأنظمة الوكيلة، هي جريمة تصفية الحركة الجماهيرية العربية، إنها أشد هولاً من كل ما تلاها من جرائم، هي أم الكبائر التي ارتكبتها البرجوازيات العربية، بالطبع لا ننكر هنا أن الطلائع الجماهيرية شريكة في هذا الوضع، كما لا ننكر أن الحقبة القومية في عمر هذا النظام الرسمي العربي قد كانت حصان طروادة الذي نفذت من خلاله البرجوازية إلى جسد الحركة الجماهيرية العربية وضربتها في القلب وشلت تماماً فاعليتها وقدرتها على إنفاذ إرادتها في تقديم جهد حقيقي وفعال في المعركة ضد آلة الحرب الصهيونية وأساطيل العدو الأمريكي، إلا أننا هنا نؤشر على حقيقة مرة تقول أنه برغم الغضب الشعبي الجارف والمشاعر الشعبية التي يمكن أن يلمسها أي عابر في طريق أو زقاق في أي مدينة أو قرية في هذه المنطقة الناطقة بالعربية، المشاعر التي تعلقت منذ 7 أكتوبر الفائت بقطاع غزة وصموده واستشهاده، استشهاده الذي يشعر كل عربي بشكل ضبابي أنه فداءٌ له ولأطفاله ولمستقبله، هذا الشعور الذي يشعر به كل مواطن يقف في طابور للمواد الغذائية وهو لا يدرك أن معاناته للحصول على قوته مرتبطة بما يجري على بعد أميال قليلة، تلك الهوة التي كان عناء ردمها منوطاً باليسار العربي، لم تمنع هذا المواطن عن تلقف أخبار المقاومة وعملياتها، غير أن هذا الشعور الجارف لم يترجم إلى ما يساويه على مستوى الفعل نتيجة غياب الوعي الثوري والمنهجي الذي استبسلت البرجوازيات العربية في استئصاله، لأجل أن تنفرد وينفرد العدو الصهيوني والاحتكارات الدولية بالتهام شعوب المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً.
إن الفعل العربي الرسمي المتواطئ أنتج شللاً عربياً شعبياً، دموع التماسيح لا تخدع سوى السذج، فالشراكة في الجريمة لا تحتاج سوى لقرار، والمشاركة في منع الجريمة هي قرار أيضاً، وهو قرار بناءً على وعي بالمصلحة الطبقية، وفي حين أن البرجوازيات العربية تعي جيداً أنه في صالحها تصفية المقاومة الفلسطينية، فإن الشعوب العربية لا تعي أن تصفية المقاومة الفلسطينية هو مقدمة جديدة في مسلسل طويل من الإفقار والتجويع وسحق الإرادة العربية الشعبية!
انفجروا أو موتوا!

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 420
`


راجي مهدي