السلطة الحاكمة بأمر النيوليبرالية

إنّ ما يفوق الماضي نفسَه أهميةً هو تأثيره على المواقف في الحاضر. إذا غاب عن نظرنا أو تجاهلنا السياق التاريخي مثلاً لرواية ما يدور فلكها في حقبة تاريخية، وركّزنا فقط على التناسق بين أدوار أبطال الرواية في ظل تلك الحقبة المعيّنة، فستفوتنا رابطة جوهرية بين هذه الرواية والفهم التاريخي لها، حيث تتشابك الرواية وإطارها التاريخي المشهدي الواقعي. وإذا أردنا الحديث عن السلطة الحاكمة في لبنان، سنتطرّق في طبيعة الحال إلى السلطة السياسية وسلطة رأس المال، وعلينا أيضاً إدراك أنّ التماهي بين سلطة رأس المال والسياسة تزايد مع تحوّل لبنان من الاقتصاد الليبرالي إلى الاقتصاد النيوليبرالي.

لبنان المتعولم إلى النيوليبرالية فالانهيار
لبنان المتعولم منذ خمسينيّات القرن الماضي استوفى في فترة ما بعد الحرب الأهلية (ما بعد الطائف) شروط الاقتصاد النيوليبرالي إذ غلب على اقتصاده قطاع المال والتجارة والخدمات، ودور الوساطة الخارجية بين السوق العالمية والداخل اللبناني، والاستيراد عوضاً عن التصنيع وبالتالي سيطرة البضائع المستوردة على السوق المحلية، وإهمال قطاع الزراعة،... إلخ. وارتبط هذا المشروع مباشرة بشخص رفيق الحريري، عند تقديمه مشروع إعمار تحت عنوان "أفق 2000"، الذي ارتكزت صيغته على الإعمار وإعادة بناء وسط بيروت التجاري ولكن بوصفه مركزاً تجاريّاً ماليّاً ودوليّاً.
لم يقتصر تمويل الإعمار من خلال مديونية الدولة عن طريق الدين الداخلي، وسياسة الاستدانة الكثيفة من المصارف المحلية بالدرجة الأولى، بل اعتمدت سياسة المشروع على خصخصة القطاع العام ورسملة القطاع المصرفي إذ تمّ إصدار سندات خزينة بفوائد عالية، وارتفعت قيمة رساميل المصارف ونمت ودائعها وتعاظمت أرباحها في ظلّ نظام ضريبي لصالح الأغنياء وتراكم الدين وارتفاع نسبته من الناتج المحلي وتنامي خدمة الدين وهدر الإنفاق الحكومي واختلالات الميزان التجاري وتهميش القطاعات الإنتاجية. بالإضافة إلى الاستدانة الخارجية التي أقرّتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة من خلال مؤتمرات باريس 1 و2 و3. في دولة أصبحت معادية للإنتاج في ريعيّتها وتبعيتها لرأس المال العالمي الذي أدّى إلى طغيان الريع على الاقتصاد، حقّق لبنان النهج النيوليبرالي الذي ترعاه المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي).

تماهي السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية
ينجذب رأس المال بالضروررة إلى حيث يكون مصدر السلطة، كي يشرّع صفقاته ويسهّل سيطرته ونفوذه. وبالتالي، تنقلّت العلاقة بين الأوليغارشية (حكم الأقلية للطبقة البرجوازية المسيطرة على الاقتصاد) والسلطة السياسية باختلاف تركّز قوّة السلطة. منذ فترة الاستقلال إلى الحرب (ما يُسمّى بالجمهورية الأولى) التفّت الأوليغارشية حول رئيس الجمهورية بما مثّله من صلاحيات تشريعيّة وتنفيذية وإعفاءات وحصانة منحه إيّاها الدستور وقتذاك. أمّا في فترة بعد الحرب، فقد تنامت علاقة الأوليغارشية مع السلطة الحاكمة عبر نظام المحاصصة الطائفية الذي تسلّم السلطة سنة 1992 (الجمهورية الثانية)، وقامت هذه العلاقة على قاعدة تحالف برجوازية الحرب الأهلية مع "أوليغارشيا" المال والسلطة. وأبرز ما حصل في فترة ما بعد الحرب، أنّ اتفاق الطائف الذي تكرّس من خلال الدستور الجديد قد نقل مركز السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى رئاستي مجلس الوزراء ومجلس النواب. وقد لعب أفراد الحكم على توازنات ثقل أقطاب السلطة هذه بالاستناد إلى قدراتها المالية وعلاقاتها مع الدول. وتعزّز دور رجال الأعمال في التمثيل السياسي المباشر مع مشروع رفيق الحريري. وأنتج هذا التمثيل اندماجَ السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية بين زعماء الميليشيات ومصرفيين ومقاولين ومستوردين، ومتلازمةَ الفساد والطائفية، التي تدافع اليوم عن مصالحها بشراسة بوجه أكبر انتفاضة شعبية يشهدها تاريخ لبنان الحديث.
ومن الجدير بالذكر أنّ شخصيّات سياسيّة كثيرة تترأس المصارف أو هي مساهمة فيها. ناهيك عن الاحتكارات التي تجريها عدد من شركات الهولدينغ، المُعفاة من ضريبة الدخل والتي يملك كثيراً منها عددٌ لا يستهان به من السياسيين. وتطال هذه الشركات عدداً واسعاً من فروع الاقتصاد، وتملك امتيازات وماركات مسجّلة لها حصراً والعديد من الملكيات العقارية، وهي التي تحتكر الأسواق.

الهيئات الاقتصادية: وحدة البرجوازية
تأسّست الهيئات الاقتصادية في ستينيّات القرن الماضي على يد أقطاب الرأسمالية العابرة للقطاعات. وتضمّ الهيئات الاقتصادية: غرف التجارة والصناعة والزراعة في كل من بيروت وجبل لبنان، طرابلس والشمال، صيدا والجنوب، زحلة والبقاع، جمعية مصارف لبنان، جمعية الصناعيين اللبنانيين، جمعية تجار بيروت، تجمع رجال الأعمال في لبنان، جمعية شركات الضمان في لبنان، نقابة مقاولي الأشغال العامة والبناء، نقابة أصحاب الفنادق، المجلس الوطني للاقتصاديين اللبنانيين، الندوة الاقتصادية اللبنانية، اللجنة الوطنية لغرفة التجارة الدولية.
وتشكّل الهيئات الاقتصادية، بما تمثّله من أعضاء، تماسكَ البرجوازية التي دأبت عدّة مرّات على التكشير عن أنيابها عند المساس بالنظام الاقتصادي الحر في صميم ريعه وأرباحه ونظامه الضريبي، وعارضت دوماً رفع الحدّ الأدنى للأجور ودفع اشتراكات الضمان وطالبت بإلغاء التقديمات الاجتماعية من نقل وتأمين، ولم تكن تلبث أن تعلن الإضراب إثر كلّ قرار يمسّ بمصالحها. هذا كلّه يترافق مع انصياع متفاوت لأحزاب السلطة للأمر الواقع الاقتصادي ولمصالح الهيئات الاقتصادية وضغوطها والاستهتار بمصالح الناس وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية في ظلّ تخاذل النقابات والاتحاد والعمالي العام، التي نجحت الطبقة الحاكمة في الانقضاض والسيطرة عليها.
وللمفارقة، تُعرّف الهيئات الاقتصادية بأنها "تجمع اقتصادي غير سياسي ولا يتوخّى الربح"، في حين أنّها ليست فقط متماهية مع السلطة السياسية، بل تصادر القرار السياسي. وهي، بحسب تعريفها، "تساهم في تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني"، في حين أنها أيضاً، "تدعم النظام الاقتصادي الحرّ والمبادرة الفردية"، فما هذه الازدواجية في التعريف؟!

الطائفية بوصفها جزءاً من منظومة السيطرة
وسيكون، بطبيعة الحال، من انعدام الحسّ بالمسؤولية أن يتغاضى المرء عن تأثيرات النظام الطائفي بوصفه جزءاً من منظومة السيطرة في المجتمع اللبناني، فمن خلال النظام الطائفي تتمّ إدارة لعبة النزاعات التي ما تلبث أن تنتهي إلى تسويات وشراكات ترضي الأطراف المتنازعة بحسب موازين القوى بينها، ، فيتحوّل الصراع في ما بينها إلى اقتسام وتوزيع خدمات الدولة وتعهّداتها وعقودها واقتسام الريوع المختلفة بين الكتل والتحالفات الطائفية المعنية. ولّد النظام السياسي الطائفي المحسوبية والزبائنية في علاقة الجماعة الطائفية بالحزب الذي تمثله الطائفة، وبالتالي سيطرت هذه الأحزاب على تمثيل الجماعات والنطق باسمها. هذا بالإضافة إلى أنّه جرى تعديلٌ في نسب التمثيل الطائفي بين المسلمين والمسيحيين في الهيئات الاقتصادية التزاماً بصيغة اتفاق الطائف بالتمثيل الطوائفي في المؤسسات السياسية والإدارية. وهو أمرٌ بديهي أن تُخضِع الهيئات البرجوازية إلى مصالحها كل ظاهرات التشكيلة السلطة الموجودة في علاقة فعلية معها، لضمان ممارستها المادية.

أزمة لبنان: فساد أم استغلال؟
بعد الأزمة التي يمرّ فيها لبنان، يرجّح الكثير أنّ سبب الأزمة هو الفساد والهدر، وهو ما روّجت له الطبقة الحاكمة وبعض منظمات المجتمع المدني، إذ تحاول بذلك إخفاء الصراع الطبقي والاستغلال وتمويهه بالفساد والهدر خدمةً للنهج النيوليبرالي، لكنّ انتفاضة 17 تشرين الأوّل وجّهت البوصلة أكثر من خلال العديد من منتفضيها، حيث علت شعارات "تسقط سلطة رأس المال" و"يسقط حكم المصرف" و"الصراع طبقي"...
ولا بدّ أنّ الفساد والهدر حاصلان، ولكنّ النظام الرألسمالي التبعي والمعتمد على الاقتصاد الريعي هو أساس العلّة. واقتصار سبب الأزمة على الفساد والهدر هو تبنٍّ للرواية النيوليبرالية للفساد، علماً أنّ الفساد الحقيقي هو الذي يوثّر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، أي فساد من يستغل موقعه السلطوي لتحقيق اكتساب ملايين ومليارات الدولارات على حساب المال العام، وهو ما دأبت عليه السلطة الحاكمة، ليس فقط من خلال الانتفاع من المال العام، بل وذهاب السلطة التشريعية إلى تشريع ما يخدم مصالحها.
وبالتالي، إنّ مصطلحات الفساد والهدر التي تطغى عند عدد كبير من الأفراد والمجموعات ملائمةٌ لوصفات البنك الدولي المتمثلة بـ"وقف الهدر ومكافحة الفساد والشفافية..."، والتي توظفّها في خدمة الخصخصة وتخفيض الموازنات الحكومية والإدارية والحدّ من خدمات الرعاية الاجتماعية. ناهيك عن مفهوم العدالة الاجتماعية الذي بات على أجندة البنك الدولي في "الدول النامية"، بعد أن تمّت إعادة إنتاج تعريفه كما يخدم مصالحها، إذ أنّ العدالة الاجتماعية بما تعنيه من مساواة وإعادة التوزيع الاجتماعي العادل للموارد والثروات والدخل، باتت تقتصر بمفهومها الجديد الذي انتشر في عصر العولمة على الحقّ في الاختلاف والتمايز للهويات (الجندرة والمثلية والعرق والإثنية والدين والقومية... إلخ). هكذا طغت المطالبة بالحق في الاختلاف على المطالبة بالحق في المساواة، وهو ما عملت عليه المؤسسات الدولية ومعظم منظمات المجتمع المدني، الليبرالية الهوى، وساهمت فيه أنظمة الاستبداد والقمع.

في لبنان، التقت السلطتان السياسية- الطائفية والاقتصادية الحاكمتان في إنتاج البنية الطبقية البرجوازية إلى حدٍّ ما في ظلّ التناقضات التاريخية. وهي ما تلبث تلجأ بشتّى الوسائل إلى الحفاظ على النهج السياسي الذي يؤبّد سلطتها واحتكارها بالعودة إلى النهج السياسي الذي أثبت فشله. ويقول أنطونيو غرامشي في هذا الصدد أنّ "الوحدة التاريخية للطبقات الحاكمة تتحقّق في الدولة وأنّ تاريخها هو في الجوهر تاريخ الدول وتاريخ مجموعات من الدول". وإذا كانت وحدة الطبقة الحاكمة الحالية في لبنان تحققت بهذا الشكل، يتوجب على البديل السياسي عنها، أيضاً، توحيد الطبقات الشعبية المواجِهة للنظام السياسي الحالي عبر توصيف المرحلة التاريخية والأزمة التي يمرّ بها لبنان، وأزمة الرأسمالية والامبريالية عالميّاً، على مستوى التناقضات الداخلية والخارجية، بالدرجة الأولى، في سبيل الخروج من الأزمة.