تسوية الرئاسة: التاريخ قد يعيد نفسه كمهزلة

يدور النظام في حلقةٍ مفرغة رغم كل المآسي والويلات التي جرّها على لبنان واللبنانيين طوال العقود الماضية. يطلّ علينا هذه المرّة بمشروع تتفق حوله قوى محلية وإقليمية ودولية عنوانه "سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية". يجترّ هذا المشروع حقبة ما بعد اتفاق الطائف التي أتت بتحالف واسع وبرعاية إقليمية ودولية بين زعماء ميليشيات الحرب، ورجل المملكة السعودية في لبنان والمنطقة، والرأسمال المالي والمصرفي، وأجهزة الأمن السورية الحاضرة ميدانياً وسياسياً.

فمع انتهاء الحرب الأهليّة في العام 1990، كان لبنان بلداً مدمراً ومتعباً، لكنّه كان بلداً خالياً من الديون الخارجية والداخلية، وكان لا يزال فيه قطاعاً مصرفياً فعّالاً بعيداً عن الإفلاس. لذلك كان إنفاق بضع مليارات من الدولارات، التي أتى جزء منها عبر المساعدات العربية والجزء الأكبر منها عبر الاقتراض والديون، تحت يافطة "مشروع إعادة الإعمار"، كافياً لإشاعة شعور من البحبوحة والتقدّم، ولشراء ذمم رجال الدولة والأمن الجدد – رجال صراعات الأحياء قبل سنوات قليلة. أتى هذا المشروع وسط مناخ دوليّ كان ينتشي على فكرة هزيمة المنظومة الاشتراكية وانتصار الرأسمالية، وهزيمة مشروع حركة التحرر الوطني وبدء مسارات التطبيع والسلام مع العدو، ووسط نشوة صعود اقتصادات الريع والمضاربات والنيوليبرالية الاقتصادية بأقصى تعبيراتها. لاءم هذا المناخ الدولي الحالة الناشئة في لبنان، ومعها جيء برياض سلامة المغمور قبلها باستثناء خبرة مهنية محدودة في مؤسسة "ميريل لينش" المالية، ليكون حاكماً لمصرف لبنان، وأميناً على مسار اقتصادي يتّكئ على وهم تحويل لبنان إلى مركز مالي ومصرفي إقليمي، مستفيداً من هذه التحوّلات. سرعان ما انهار وهم النمو والإعمار عبر الديون، ووهم نهضة القطاع المصرفي عبر الودائع والفوائد المرتفعة، ووهم بناء الدولة الحديثة على مشروع التعايش بين سطوة الأجهزة الأمنية واستخباراتها، وسطوة المال والريوع والمضاربات، وسطوة الفساد السياسي المستشري في أعلى هرم الحكم.
لم يعش وهم الطائف، على الرغم من ملاءمة الظروف الدولية والإقليمية والداخلية له سوى عقد أو أكثر قليلاً من الزمن. بدأ عداد الديون بالانتفاخ وظهرت تساؤلات جوهرية حول استدامة النموذج الاقتصادي الريعي. احتدمت صراعات البورجوازية الناشئة من رحم الأحزاب الطائفية الصاعدة، وتلبّدت العلاقات بين رعاة الاتفاق فانهار الهيكل على رؤوسنا جميعاً، ودفعت الطبقة العاملة والفئات المتوسّطة الأكلاف الباهظة لذلك.
رغم هذه التجربة، تطلّ علينا اليوم فكرة إعادة إنتاج هذه التجربة مجدداً رغم تغيّر الظروف على كافة الأصعدة. يقدّم "ماكرون" نفسه وكأنّه صاحب براءة اختراع عظيمة في اقتراح بلورة تسوية داخلية لبنانية تشكل امتداداً لتسوية اقليمية، فيطرح أن يتم تتويج سليمان فرنجية رئيساً مقابل أن يكون نواف سلام (أو تمّام سلام أو بهاء الحريري كما يتداول البعض) رئيساً للحكومة، على قاعدة إرضاء امتداداتهما في المنطقة، وحلفائهما في لبنان. ووسط هذه الضغوط، تبدأ ماكينات إعلامية ومغرّدون وكتبة، بالترويج لمستقبل مشرق ستغدق فيه بعض الدول بالدولارات على لبنان، فتنتهي أزمته الاقتصادية ويبدأ معه مشروع التعافي. المرشح نفسه وعد اللبنانيين "بأيام حلوة" بحال انتخابه، وفي كلامه هذا مصداقية توازي وعد سمير جعجع للبنانيين بانخفاض سعر الصرف بحال فوز القوات اللبنانية بكتلة نيابية وازنة.
قال ماركس يوماً أنّ "التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة. وما نراه الآن هو المهزلة". إذ تتنطّح قوى السلطة ورعاتها إلى تقديم حلّها السحري للأزمة الراهنة عبر إعادة إنتاج ظروف الحكم نفسها التي أنتجتها قبل 30 سنة، رغم كل المتغيرات الهائلة التي حصلت طوال هذه المدّة. وهي بطرحها هذا، وبغض النظر أنّها تقع متأخرة 3 عقود عن التاريخ الذي يمضي قدماً دوماً، تتوهّم أن بضع مليارات موعودة أو انتظارية تدفق الغاز الموعود بعد التنازل الذي جرى تقديمه للعدو، ستكون كافية لإشاعة أجواء التسعينات التفاؤلية. فالطائف نفسه، بكل قوّته وبكل ظروفه الإقليمية والدولية المؤاتية لذاك المشروع، لم تدم نشوته سوى سنوات قليلة قبل أن تنقلب انهياراً شاملاً واستعصاءً منتشراً على كافة المستويات. لو قدّر لهذه المبادرة أن تنجح، لن تدوم نشوتها الموعودة بضعة أسابيع. فالبلاد الآن ترزح وتنوء تحت عبء فجوة مالية تقدر بحسب بعض الدراسات ب 70 مليار دولار، بعكس ما كان عليه الوضع في حينها. والدول الراعية اليوم لها همومها ومشاكلها وأزماتها وخططها المستقبليّة التي لن تتخلى عنها لإنقاذ وضع متهالك كمثل الذي عندنا. والقوى الحاكمة المنضوية في هذه التسوية هي القوى نفسها التي تسببت بالانهيار الشامل، فكيف لها أن تكون هي رافعة الحلّ له؟ لذلك نقول، إن بيع اللبنانيين وهم النهوض بهذه التسوية هو مهزلة التاريخ الذي قد يعيد نفسه.
في كلّ ما قاله سليمان فرنجية مؤخراً إشارات على تأبيد النموذج السياسي والاقتصادي القائم والذي كان معمولاً به منذ التسعينات. يؤكد على أهمية الاقتصاد الرأسمالي الحرّ في لبنان، ويتغنّى بالنموذج رغم انهياره الهدّار. أمّا في الممارسة السياسيّة، فقد امتاز خلال تولّيه وزارة الداخلية والبلديّات بإطلاق العنان لتراخيص "البينغو"، وكأن القمار والمقامرة أعمدة من مشروع نهضة لبنان الاقتصادية في حينه، ناهيك عن تجارة أرقام السيارات المميزة وتعيين المقربين في الوظائف العامة الأساسية، كما فعل كل من سبقه وتلاه. وفي تجربة وزراء تيار المردة في الحكم أمثلة عديدة وشاهدة حول النموذج الذي قد يقود به هؤلاء البلاد، فوزراء الأشغال وتلزيماتهم، كان رمزهم حائط نفق شكا المنهار منذ سنوات قاطعاً نصف الطريق على أهل الشمال. أما الالتزام بالقانون والدستور، فقد كرّسه الوزير فنيانوس، الهارب من العدالة، رافضاً المثول أمام المحقق العدلي في جريمة انهيار المرفأ، وأخيراً وزير الاتصالات الحالي الذي هدد بتسيير مرفق أوجيرو عبر الجيش اللبناني إذ نفذ الموظفون إضرابهم منذ بعضة أسابيع. هذه التجارب تعكس رؤية تيار المردة وممارسته في الحكم والإدارة والسياسية والاقتصاد والقانون والحريات العام والنقابية.
يرسل الوزير فرنجيّة إشارات إلى الأميركيين أنّه سيسير بمرشّح مقرب منهم لحاكمية مصرف لبنان، وبالطبع لقيادة الجيش والأجهزة الأساسية، وهذا جلّ ما يهمّهم الآن في ظل رمزية موقع رئاسة الجمهورية ومحوريّة المواقع الأخرى. أمّا الفرنسيون، فبدأوا بحصاد ثمن مبادرتهم حتى قبل أن تنجح: تستأثر توتال بالاستكشافات النفطية في البحر، وجرى تلزيم الأعمال في مرفأ بيروت وفي مرفأ طرابلس إلى شركات تعود ملكتها لمقربين من الرئيس ماكرون، في عهد الوزير الحالي، كما يجري التحضير لتلزيم الشركة نفسها تشغيل خدمات البريد والاستحواذ على "ليبان بوست". وتطمح فرنسا نفسها إلى المزيد من الامتيازات والاستحواذات في لبنان كما في دول إقليمية كبرى، بحال نجحت مبادرتها ووصلت إلى خواتيمها. وفي كل تلك الممارسات والوقائع، تطرح أسئلة أساسية حول موقف فرنجية وحلفائه وموقعهم من التغيرات الدولية الحاصلة، خاصة في ظل استعداد الصين وجهوزيتها للعمل والاستثمار في مجالات عديدة ومنها المرافئ، وسبب إدارة ظهر هذا الفريق لها ولجوؤه إلى تعزيز الدور الفرنسي في لبنان، رغم انكفائه المستمر على مستوى العالم والمنطقة.
عبثاً تحاول قوى الوصاية الخارجية وقوى الحكم في لبنان اجترار تسويات الماضي وإسقاطها على الحاضر، فذلك لن يأتي إلّا بالمزيد من التقهقر والانحطاط على كافة المستويات، وعبثاً يسعى نظام المحاصصة الطائفية المتحالف مع الرأسمال المالي تخطّي جرائمه وارتكاباته بحق الشعب اللبناني. كم هو كارثيّ أن يصر البعض على إعادة التجارب نفسها، وأن يتوقعوا منها نتائج مختلفة عن المصائب التي تسببت بها من قبل!


*مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

 

  • العدد رقم: 415
`


عمر الديب