هل يستقيم التحرير مع الإنهيار والتدمير داخلياً؟

ليس الخامس والعشرين من شهر أيار عام 2000، يوماً كباقي الأيام. إنه عيد التحرير بطرد الجيش الصهيوني المحتلّ من أرضنا. وهو محطّة بالغة الأهمية في مسيرة نضال ومقاومة شعبنا وتاريخ بلدنا.

فانتصار المقاومة ينطوي على العديد من المعاني.. فالعدوّ الذي استخفّ ببلدنا الصغير، الجريح بانقساماته وحربه الداخلية، ودولته الغارقة في صراعاتها الطائفية، ظنّ أنه يستطيع احتلاله وفرض مطامعه في أرضنا ومياهنا، وجعل لبنان بمثابة جرم صغير يدور في فضائه، وخاضعاً للمخطّط الأميركي الصهيوني في المنطقة. لكنه أصيب بخيبة مريرة. فالبلد العربي الوحيد الذي ألحق الهزيمة بالجيش المحتلّ هو لبنان. فمنذ وصول غزوه إلى عاصمتنا بيروت في منتصف أيلول 1982، وبعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين أواخر شهر آب من العام نفسه، ولدت من رحم شعبنا وإرادته الوطنية مقاومة شعبية من نوع جديد، بإسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تميّزت في بنيتها ودورها وهدفها، بأنها ليست لطائفةٍ أو لمنطقة بعينها، فهي من كل لبنان ولكل لبنان. وقد وقّع بيان إطلاقها جورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، ورفيقه محسن إبراهيم، أمين عام منظمة العمل الشيوعي. وهذه المقاومة التي فرضت بضرباتها البطولية الانسحابات المتتالية على الجيش الصهيوني بدءاً من بيروت، كانت منفتحة على جميع قوى شعبنا للمشاركة في مقاومة الاحتلال، بما في ذلك المقاومة الإسلامية. وكان 25 أيار من العام 2000 يوم استكمال التحرير وطرد الجيش الصهيوني من أرضنا وإفشال هدف المخطط الأميركي بجعل لبنان حلقة ثانية في اتفاق كامب دايفيد. كما أنّ هذا الإنتصار أضعف استخدام الولايات المتحدة لأداته الصهيونية، كعصا غليظة لضرب أي حركة تحرّرية عربية – لكن بدلاً من أن تتجلّى ثمار هذا الإنتصار والتضحيات الجسيمة لشعبنا، في بناء وطن ودولة تحتضن جميع أبنائها وتزيل فرزهم طوائف ومذاهب منقسمة ومتصارعة، وتوفّر لهم رعاية وعدالة اجتماعية حقيقية وتنمية إقتصادية، خصوصاً القطاع المنتج، لتحقيق التقدّم والإزدهار والتحرر من التبعية للمراكز العالمية للرأسمالية، نجد عكس ذلك فتكاثُر التدخلات والأدوار الخارجية بشأن الوضع اللبناني، مثالٌ على ذلك. فإنّ من غير الطبيعي أن يكون التحرير مثالاً مضيئاً بينما الوجه الداخلي ومجمل ظروف حياة الشعب ومعيشته الاجتماعية معتمة وبائسة وفي حالة تدهور وانهيار مريع.
ولا تستقيم المقاومة مع حماية نظام طائفي مهترىء وطبقة سلطوية فاسدة وعاجزة عن حماية الوطن وضمان حياة الشعب ولا مع التراجع أمام العدّو الصهيوني كما جرى في ترسيم الحدود البحرية والتنازل عن الخط 29 الذي يؤكّد المؤرخون والاختصاصيون أنه حق للبنان. ثم الصمت والتجاهل إزاء تفجير مرفأ بيروت والمجزرة البشعة التي أحدثها، والضغط على القضاء لمنع الوصول إلى الحقيقة وتحديد المسؤولية. وليس مقبولاً التواطؤ بإطلاق جزّار الخيام عامر فاخوري، وعملية إطلاق الأميركي الذي كان بين المعتقلين بقضية المرفأ، وسفره الفوري عبر مطار بيروت إلى الولايات المتحدة.
إنّ مسيرة الشعوب تُظهر أنّ تضحياتهم وانتصاراتهم في تحرير أوطانهم تترافق مع تقدّم وارتقاء في مستوى حياتهم وتلبية حاجاتهم وطنياً واجتماعياً. خصوصاً أنّ جماهير شعبنا في انتفاضة 17 تشرين المليونية، الشاملة جميع الطوائف والمناطق، قد عبّرت بوضوح، رغم كل الضغوط السياسية والقمعية الميليشياوية، عن رفضها نظام الانهيار وطبقته السلطوية. ويأتي التوجّه الجديد الرامي إلى الاستقرار والانفتاح في منطقتنا، ليتيح للبنان ضرورة الخروج من النفق النظام إلى رحاب لبنان سيّدٍ ديمقراطيّ علماني، يوحّد اللبنانيين، ويحدّ بل يزيل الانقسامات الطائفية والمنافذ التي تدخل منها الضغوط وأصابع العدوّ الخارجي. وهذا يستدعي الإتيان برئيسٍ للجمهورية من خارج التركيبة القائمة، وعلى قاعدة برنامجٍ لتغييرٍ حقيقيّ يجسّد الإرادة الوطنية والتغييرية التي تجلّت بالإنتفاضة ليكتمل التحرير بالتغيير.

  • العدد رقم: 415
`


موريس نهرا