زراعة التفّاح في مهبّ الرياح- الجزء الثاني

ذكر جيداُ يوم عادت أمّي من منزل العمّ طانيوس فيليب، رحمة الله عليه، حاملة بيدها أعداد لمجلّة الدبّور الشهيرة، وأذكر حين وقع بين يديّ عدد 29 آب 1965، واستوقفني مقال بعنوان "زراعة التفّاح في مهبّ الرياح". لم أكن أعلم أن هذا المقال سيكون مرجعاً مبكٍ لي ولمزراعي التفاح، وسأعاود لقراءته بعد 55 عاماً، واقرر أن يكون هذا المقال، جزءاً ثانياً "موديرن" في مشاكله.

تبدأ مشاكل هذا القطاع في البستان وتنتهي عند المستهلك

مشاكل البستان:

دخلت التفاحة بساتين "الجرد" مع دخول الإنتداب الفرنسي، وقد كانت البديل آنذاك لزراعة التوت وتربية دود القزّ، التي يحمّلها المزارع المسؤولية في مجاعته. استقبلت التفاحة في البستاتين إستقبال الملوك، ومن يملك حسن الضيافة أكثر من إبن الأرض؟

ومع الوقت "تلبننت" التفاحة، وأصبحت من "أهل البيت"، لها مشاكلها الخاصة، وتطلب العناية بدورها من أجل معركة البقاء في بلد "سوايعاتي" الطبع.

أول الأصناف التي دخلت الأراضي كانت الـ "غولدن ديلشوس" والـ "ستاركينغ ديليشوس" أو المعروفة بالتفاح الأبيض والأحمر، وقد صمدت في البساتين حتى أيامنا هذه. مذاقها وطعمها رائعتان بالإضافة للعصيرها. لكن، ومع الأسف، تغيّر الطلب، وظهرت أصناف جديدة، وباتت مطلوبة أكثر. لم يدرك المزارع هذا الأمر وخاف التغيير، كيف له أن يجدد بستان أبيه وذكرى جدّه؟ هنا خسر المزارع لأوّل مرّة.

إضافة إلى الأصناف، يقاتل المزارع يومياً الافات والحشرات في بستانه. ففي عام 2012، قبل أن يحين وقت القطاف، ظهرت له آفة جديدة، وهي ذبابة البحر الأبيض المتوسّط، التي وصلت للإرتفاعات بسبب التغيّر المناخي: وهذه الذبابة غدّارة، لا ترحم! قد تكبّد المزارع خسائر مادية قد تصل الى الـ 80% في حال عدم معالجتها بدون رحمة. ذبابة البحر الأبيض المتوسّط كانت الخسارة الثانية.

سوء إدارة البستان والإلتزام بالإرشادات الزراعية "العلمية"، أمر بعيد عن المزارع، وأبعد من قدرته على المنافسة في الأسوا، إذ أن معظم المزارعين يعتقدون أن الزراعة خبرة، وما تعلمته من جدّي وأبي هو الأصح. صحيح أن خبرة الكبار أساسية، ومنها بنيّت الأبحاث العلمية، لكن المتابعة العلمية وإدارة البستان علمياً لا تلغي الخبرة، بل هي عملية تسهيل معاملات وإقتصادية... هنا المزارع هو من سجّل في نفسه الهدف الثالث وخسر للمرّة الثالثة.

الأزمة الإقتصادية

ممّا لا شكّ فيه أن الأزمة الإقتصادية تلعب دوراً كبيراً في هذا القطاع، وتلك الأزمة ليست وليدة عام 2019 لكنها قديمة. بسبب سوء الإرشاد الزراعي والمتابعة، بات المزراع وحيداً، كمن لا يعرف الغوص ورموه في قعر المحيط قائلين له "نلتقي عند شطّ الأمان". أجبر المزارع على المغامرة من أجل الأمان، لكن تلك المغامرة كلفتّه روحه وأمواله ولم يصل بعد إلى شطّ الأمان، بلّ وصل إلى عام 2020، حيث إرتفاع صرف الدولار في دولة شعارها "شرايتو ولا تربايتو"، فبات يدفع بالدولار لشراء المبيدات، والأسمدة، وتصليح مكناته، في المقابل يحصّل أمواله بالليرة اللبنانية. وفي عام 2021 ظهرت أزمة المازوت وتبريد صندوق التفاح سعّر بـ 2$ أقلّه... فبات شطّ الأمان أبعد لا بل مستحيل الوصول اليه.

الوصول  للمستهلك والكذبة السنوية

كلّ عام في أيلول تنشط الأحزاب السياسية الطاغية في مناطق إنتاج التفاح لتوزيع إبر المورفين على المزارعين، وكان بطل هذا العام القوات اللبنانية ونعمة إفرام، الذين واعدوا بموسم مزدهر حتّى تصدّر هاشتاغ "إعادة تصدير الأمل" مواقع التواصل الإجتماعي. فعلياً الأمل لم يصدّر، بل أصبح المزارع مصدر لتصدير الأمِل (بكسر الميم) من كثرة اليأس والإحباط. فكيف لهم أن يكونوا بهذه الوقاحة ويعدون بتصدير التفاح ولبنان غير قادر على المنافسة محلياً؟ لبنان خرج من أسواق العالم ومن السوق المحلّي، حتى أن دول الخليج تستورد تفاحها من جنوب أفريقيا ولا تفكّر في تفاح لبنان... أبعد من هذا... أصبح للملكة مزارع تفاح.

محلياً، كانت سحّارة التفاح هدية يتباهى فيها المزارع... أما اليوم باتت مقولة "تعا قطوف وحياة الولاد قد لبدك وريحني من التفاح" هي الهاشتاغ الحقيقي.

من له القدرة أو عنده المعرفة يستطيع أن "يظمّط" بموسمه، ومن ليس له القدرة، يغرّد بهاشتاغ الأمل.

اليوم بعد 55 عاماً، لا أصدق أني أتابع مقالاً بدأه أحدهم، كنت أتوقّع أن يكون مقالي مدحاً في تفاحتنا، لكن، ومع الأسف، في ظلّ غياب "وزارة الزراعة"، المسؤول الأوّل عن هذا القطاع والمشرّع والمراقب، هذا أمر طبيعي؛ أتمنّى بعد 55 عاماً من اليوم، أن يكتب أحدهم مقالاً عن هذه الفاكهة بعنوان "رياح الأموال تبدأ في الإستثمار في تفاحة لبنان".