عندما لمسوا مماطلة المجلس العسكري الانتقالي في الأخذ به بعد انتصار الثورة. إذ اجتهد سودانيون، في ثمانينيات القرن الماضي، من أجل إدراج مدنية الدولة بنداً في الدستور، قطعاً للاستقطاب الحاد الذي كان سائداً في المجتمع بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة العلمانية، في بلادٍ تتميز بتنوّعها السياسي والديني والمذهبي والقومي، ومنعاً لسيادة معيار "أغلبية وأقلية". وإذا كان رفع هذا الشعار ضرورة في الماضي من أجل تجنيب البلاد صراعاتٍ لا تنتهي، فإن ضرورته تبرز حاضراً مع تتويج العسكر محاولاتهم المتكرّرة في الانقضاض على ثورة الشعب السوداني وحلمه بدولة طبيعية، بانقلابهم المنجز على شركائهم في المكون المدني من أجل إعادة البلاد إلى حكم الدكتاتوريات العسكرية.
ليس هنالك تعبير أبلغ عن رفض العسكر الدائم إقامة دولة مدنية، سوى ذلك المشهد الذي يصوّر هجوم الجنود على المعتصمين أمام القيادة العامة، في يونيو/ حزيران 2019، المطالبين برحيل العسكر وتسليم السلطة للمدنيين، ورفع العصي على المتظاهِرات وسؤالهم إياهن: "مدنية أم عسكرية؟". وللمفارقة لم يكن ينفع الواحدة منهن نطقها كلمة "عسكرية" لتجنيب نفسها الخطر النازل، إذ كانت العصي تنهال عليها حتى لو كان جوابها: "عسكرية". ولا يقاس مشهد العصي النازلة على أجساد النساء الرقيقة، على الرغم من بلاغة رسائله، بمشهد القتل والسحل ورمي جثث المعتصمين في مياه النيل لتأكلها التماسيح. كذلك لا يقاس بتبرير رئيس المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، رفضه المدنية بأن الدساتير السابقة لم تنص على مدنية الدولة. لكن البرهان الذي كان جزءاً من النظام البائد، يعرف أن الحزب الشيوعي السوداني قدّم اقتراحه لدستور جديد تنصّ بنودٌ منه على مدنية الدولة، بناءً على طلب القيادة السياسية، قبل أكثر من 30 عاماً، ومع ذلك رُفضت الاقتراحات.
والسودان، ككلّ الدول العربية، نشأت الدولة فيه من رحم معركة النضال للتخلّص من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المعركة التي شارك فيها الشعب بنضالاته على كافة الصعد، جنباً إلى جنب بعض القوى المنظمة التي شكّلت نواة الجيوش العربية اللاحقة. غير أن هذه الجيوش لم تنسحب إلى ثكناتها بعد انتهاء مهمة التحرير، بل سيطرت على السلطات في كثير من الدول العربية، خصوصاً منها تلك التي اتّبعت النظام الجمهوري. والمبرّر الدائم هو أن الجيش باعتباره المؤسسة الأكثر تنظيماً، يستطيع إدارة شؤون الدولة على أكمل وجه. وهي عبارة تتكرّر في لبنان، وتكرّرت في مصر لتبرير سيطرة الجيش على الدولة ومنع قيام دولة مدنية. وفي هذا السياق، كان تغييب الحريات، وتبنّي برامج تنمية قاصرة، والبقاء في طور الدولة ما قبل الصناعية التي تنظّم المجتمع وترتقي به وبمؤسساته إلى المستوى الذي ينظّم سلوك أفراده ضمن إطار القانون والدستور، كلها عوامل ساعدت رأس الدولة الفرد في استمرار فرض نفسه، إضافة إلى سياسات التجهيل والترويع والانتهازية التي كانت أدواته لكسب المؤيّدين.
وفي سياق استغلال كلِّ شيء لتثبيت حكم العسكر، كان يُلاحظ دائماً حضور العلاقة المضطربة بين مؤسسة الدولة والمؤسسة الدينية، ممثلةً ببعض الأحزاب والحركات الدينية، فكان الحاكم ينأى عنها حين يريد الظهور بمظهر الحاكم العصري الميال إلى القانون والحكم الديمقراطي. وكان يدنو منها حين كان يحتاج إلى مساندة في قرارات جائرة يستعين بهذه الأحزاب لتبريرها وإكسابها الشرعية. وفي حالات أخرى كان يجري تبنّي شعاراتها، بل والتماهي معها في السلطة، كما فعل جعفر النميري حين وصل إلى درجة فرض مبايعته إماماً للمسلمين. كذلك، كما فعل البشير مرةً وتبنّى الشريعة الإسلامية، ومن ثم انقلب على حلفائه الإسلاميين حين انتفت حاجته لهم. وانعكس تبنّيه ذاك مصائب وقعت على السودان وأهله، خلال فترة حكمه الذي امتدّ على مدى ثلاثة عقود فاندلعت اضطرابات إثنية ومناطقية، تكلّلت بانفصال جنوب السودان عن شماله في عملية يتحمّل البشير مسؤوليتها.
إنطلاقاً من هذه الوقائع، ومنعاً لاستغلال الدين في السياسة، ومنعاً لتكرار تجارب الماضي المؤلمة، عاد شعار مدنية الدولة للظهور عشية ثورة ديسمبر وبعد انتصارها. ومن دون أن يرِد ذكر عبارة "الدولة المدنية" في الوثيقة الدستورية، وردت بنود تؤسس لها، خصوصاً البند الرابع منها الذي يتحدّث عن طبيعة الدولة، والذي يقول: "السودان جمهورية مستقلّة ذات سيادة، برلمانية، ديمقراطية، تعدّدية، لا مركزية، تقوم فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الإنتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب".
في طرحهم يفرّق الثوار بين الدولة المدنية والدولة العلمانية؛ إذ ترتبط المدنية بالديمقراطية بفضل اقترانها بالمساواة في المواطنة وبالحقوق والحريات العامة وحرية المعتقد وتكريس المؤسسات. بينما يعتبرون أنه ليس من الضروري أن تقترن الديمقراطية بالعلمانية، وذلك بناءً على تجارب من قبيل تجربة بينوشيه في تشيلي، وزين العابدين بن علي في تونس، وكانت كلُّها فترات اتّصفت بعلمانية الدولة، بينما كانت السجون تكتظّ بمعتقلي الرأي.
هنالك خطر يُحْدِق بالسودان إذا ما استتبّ للعسكر السيطرة من جديد على الحكم ومنعوا المدنيين من الوصول إليه، وهو دخول البلاد مرة أخرى في العزلة التي فُرضت عليها سابقاً نتيجة أفعال الدكتاتور البشير. وما اقترفه العسكر بعد انقلابهم يرقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية، سيجعلهم موضع مطالبة لمحاسبتهم أمام المحاكم الدولية، وسيجعل هدف الدولة المدنية قائماً لا بديل للسودانيين عنه في ظلّ تعقيداته وما يجري من وقائع.