أنماط الأهواء .. نص من مجموعة " نلقى ما كان .. 75 - 1976 "

عوالمُ الأرضِ، تمسرحٌ مقدّسُ الأنماط والأهواء، زوّار الأرض، نافخو الضوء من مسافاتٍ ضوئيةٍ عميقةِ الأبعاد، لا سبيلَ لنا إليها سوى بعلم الفيزياء، باكتشاف ممرّاتها ومنعرجاتها، فالكون قطعة واحدة، يتوسّعُ بأكثرَ من رِجلٍ وحذاء، بوجوهٍ تتعانق كمجرّاتٍ ليس فيها لحمٌ ولا شحم، والأشكال الخارجة على النظام، هي أشكالُنا المتحرّكة، والمتحجّر منها في أسفل القائمة، نكتشفها بحثاً عن نشاطٍ قديمٍ للحياة، تتصاعد أنفاسُنا منها، تمتزج بغشاوةٍ تحليلية، بتهيؤاتٍ تتنافخُ إمعاناً لتفوّقِ عِرقٍ على آخرٍ كارثيِّ التكّهفِ والانفصام.

 

بفجاءةِ الدّهشة، كأنَّ العالم أكتُشِف للتوّ .. كيف تتهاوى محيطاتُ الجليد والقلوب .. كيف تمزّقت طبقة الأوزون .. كيف بانَ ثِقبُها الأحفوريُّ العاكس للعقول السوداء ..؟ التي، مفردات الفحم، الإحتراق والتفّحم؛ فلا تفي بالمطلوب، وقد انقلبَ السحرُ على الساحر، هاك، الطبيعة تسخرُ من الجنس البشرى، تلثغُ كالأطفال، ثمّ تلدغ كالأفاعي، الطبيعة، سيّدة الموتِ والحياة، قرينة التجدّد، لا تغلبها أسلحة الدّمار الشامل، لأنها الأقوى، الأصل، البداية والنهاية، لا تتوقّفُ ابداً عن الحياة، عن الوعظ، عن الصلاة، عن ديمومة صِلتها بأبنائها الكائنات.

 

كلّما أسبقُني، أقف أمامي كولدٍ أمام أبيه، أُحادثُني من خلالهِ، أستبقُ عطفَ نظراته، نفسَهُ السمحاء، وانظرُ لصورتهِ على الجدار من رموش اللحظاتِ والّلحاظ، لم نختلف البتةَ على مسألةٍ ما، لكنّي في موقِ عينيهِ ذات حصارٍ وقتل. قتلٌ بلا هوادة، نزَقٌ حضاريٌّ يتضمّنُ مقابرَ جماعية، ولا ينتهي العرض كي يبدأ.

هكذا تحملنا الأرواحُ في توهة المصالح العليا لامبراطوريات الشرق والغرب، وقد نامتِ النواطيرُ، وخانت، وراح الحادي يلعق حويصلات اليمام، وليست على عهدها، تطير بأجنحة رمادٍ ودخان، بجَملِ الصيف يهبُّ بحمأةِ ناره، بحيّةِ الشتاء تلوذ بالسُبات، واليد المعلّقة على المشكاة، تحاول أن تمشي، أن تتلبّسَ محوَ القمر، غلسَ الليلِ، ضبابَ السديم، طفولةً أكهلتْ، ولأنها تمتدُّ حتى أرذلِ العُمُرِ، لا ترتاح أيَيْدٍ تنحو أناملها للأسحار، لسهوب الألوان، لأوراق الألم، لمبشّرين للعالم الجديد، حيث تلطّخت الجينات، الحيوانات المنوية والبويضات، حيث سقطت السماء .. جاء ذلك في سِفر الدّماء المسفوكة، في المُقتَلَعين الممنوعين عن الحياة، في مجون شجرة الدُّر، في شهادة الدُّرة، والذئاب المٌجَوّعة تجيد التصهين القاتل.

 

كانت المفاتيح تتدلّى من خاصرة الزمن، حين أفقنا، بعد ثمانين " شمساً وقمراً "، لم نجد ما نقتات غير هياكل الأهل. بعد مشاهدَ ولوغنا في لحمنا ودمنا بمزيجٍ من الحماسة والإثارة، خضعنا لمعادن الأرض، أمّا حديدُها المتساقط إلينا من الفضاء البعيد، كذا، الرأسمالية، الإمبريالية والصهيونية، إرهابٌ خارج عن السيطرة، إرهابٌ بجرعاتٍ مخدّرة زائدة القتل والاحتلال والنهب، إنّها الصورة الدافعة للوحدة، للمصير الواحد، للرفض، صورة وجوديّة، نحتاج فيها لرفع منسوب الأدرينالين، هناك أيضاً توجُسٌ وضغائن، شهوةٌ هزلية مليئة بعروض الفوضى، ألَا إنّهُ نظام المتعة العالمي، وتلك السلطة العابرة للأرواح، تأخذنا لنشوة البلوغ، بعد بلوغنا، أجبرتنا الحروب على الصّمت، على حبس نظراتٍ تائهة، زائغة، رائعة، وأسفار الحزن، الأسى والكآبة، تُلقي بأثقالها وأحمالها؛ فامتطينا خيالاتنا بلا عودة، ومنها ما هوى، حيثُنا غرباء بين غرباء، غراباتٌ سرعان ما تتحوّل إلى أنواعٍ شتّى من فيروسات الأهواء والأمزجة، وتلك النُظُم الحديديّة، وأحاديث الهوى تعكس الذكريات، انطباعات قريبةٍ وبعيدة تعيدنا إلى رومانسية حياةٍ أُبيدت بجنونٍ وغموض، وتلك المقابر الجماعية المجهولة، تروي قصصاً مستحيلة، لا قاتلَ أُحيلَ على ...!! 

تتأرجح الأفكار والمشاعر، القصص والروايات، حبكة التاريخ، ينزلق ساكنو الأحداث الماضية إلى حياتهم القديمة، لمزيدٍ من ملاحم الأسلاف.

كنّا أعدَدْنا يخنةَ برغل، بعد تلك الوجبةِ الأخيرة، تمَّ إسدال ستارة المنافي على وجودنا، أذكر كيف هرعنا بلا أقدام ومكان، حينها الصلوات فيلمٌ يؤرِّخُ لحِقبةٍ دمويّة؛ فلا .. لا تنسَ ما يحيط بكم من نزاعٍ لافتٍ واقعٍ بين الكوميديا والدراما .. ملهاةٌ وطنية بامتياز العائلات الحصرية لنكهات الدول الكبرى.

 

كانت أرواحُنا كما لو تُهرع ببطءٍ شديد، بعكس وجوهنا وأقدامنا، كأنّا بها لا تزال شاخصةً هناك، في أماكن احتراقاتنا، والسُبلُ اجزاؤنا، ندفعها أمامنا، خلفنا، يمنةً ويسرى ما بين خطوط النّار، ما بين حطب شهر آب "الّلهاب"، ملامحُهُ المترامدة، تُفصِحُ، تتفاوتُ فيه طقوس الدّمار والخراب.

 

في حصون هذا الخراب، كنّا ننتظر اللحظةَ المثالية، لحظةٌ كلّما حانت، سقطت بعين قنّاص، لحظاتٌ لا حصرَ لها، هي استثناءٌ مؤلمٌ بقدرة الأنفاس على سحب بعض الأوكسجين من الدُّخان والرماد، نسمع فيها دقّاتِ القلوب، تسارع الوقتِ والعتبات، يباسَ العشب، ضحكاتٍ، ليست مصادفةً أن تلتقي عبرها الدّموع. 

ذات يومٍ، لملمنا بعض الوجوه والملامح عن الجدران، نهرب بها لولادةٍ وموعدٍ آخرين، والصورة زمنٌ جديد، يظلُّ مكتَسِباً، مكتسياً نضارته؛ فلا مناص عن أنفاسٍ تعلو وتهبط، عن تنازعٍ محرورٍ لنظرةٍ خارج هذا الإختناق، ولأنّها عاصفة القذائف واللهب، نتلفّتُ بأصواتٍ تتلاشى، وبعضها أغمض، حالٌ فيها من التفاعل والتداخل لطخاتٌ نبيذية على الجدران، لونها الأحمر والأسود، خيبةٌ مريرةٌ في الحلوق، حشراتٌ غازية بمفردة القتل، حُجُبٌ تمترست على إعتقال الأضواء، لا إعتاق، نهاراتٌ غلبَ عليها الظلام، نسحب منها بعض خيوطٍ لكتابةٍ تلفُّ الجباه والسواعد، لتمتماتٍ تصير شجرةً وفراشة، وردةً يقِظةً في كلِّ عين، قصةً عن أفواه السهر، ترنيمةً مطريةَ الشّموع والدّموع، والأيدي لا تُبصر، تدرك الأمكنة بلمساتٍ مقهورة، مبتورة الأنامل، وفي أبراج الدّخان، هيئاتٌ تتثاءب، تتواثب أشواقُها الضآلة، تفترش ثرى الصلاة، حتّى، ريثما ينتهي الإفتراس، غيلانٌ لا تشبع، نأمٌ يتواسع بأوردةِ الجلود، ولأنّني في أوزارها، أُطلِقُ سراحَ الرؤى، تقتح على الوجوه والعيون، على الغافية حول الجهات، شكلها الخارجي، هو شكلنا الداخلي، وأم محمد "سمسماني"... ركيزة الصمود، امرأة من رحم النساء السيّدات، من صلب الرجال الرجال، تقبض على الجراح بقلبٍ حديديِّ المِراس، حليبيّ الصدور، هناك، عند شجرة المغيب، ما لا يغيب، وبأنّ يومَ نعود، سيكون بوابات النّور، لا غير.