الفكر الاستعماري في تعريف التراث

لا يتعلّق التراث بالجمالية الشكلية للمبنى أو للمادة الفنية الثقافية، ولا يتعلّق أيضاً بالفخامة والثراء، أو لا يجب أن يتعلّق بهذه المكوّنات. المفهوم المستخدم حالياً لتحديد ماهية التراث مرتكز بالكامل على التعريف اليورومركزي والبورجوازي لما يجب اعتباره ذو قيمة والحفاظ عليه للأجيال القادمة، وما يجب بالتالي التخلّي عنه.

إن النظرة المهيمنة للتراث هي نظرة غربية استشراقية للموروث الثقافي، تتضمّن أيضاً قوانين طبقية لما يجب أن تكون عليه المدن والقرى والمناطق. لذا، فنقد هذه النظرة وطرح بديل لها هو أبرز ما تعتمد عليه القراءة التفكيكية لإبستيمولوجيا التراث الذي ورثناه عن الأكاديميا الحداثوية.
في ظلّ مواصلة الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية للاستعمار، تأتي القراءات الماركسية مستفيدة من دراسات مابعد الاستعمار، والبنيوية ودراسات التابع subaltern studies وعلوم الأنتروبولوجيا والجغرافيا والدراسات الثقافية، لتبني إذذاك تعريفاً للتراث، من خارج المنظور الاستعماري والبورجوازي: ليس التراث ما تنتجه أوروبا، وهو ليس فقط القصور والمباني الفخمة التي بنتها البورجوازية.
في هذا النص، سنحاول فتح نقاش حول مفهوم التراث المبني وغير المبني\غير الملموس، كبنية استعمارية لنطرح كيف نفكّر \نرى التراث كشعوب تعمل نحو التحرّر، وكيف نبني أطره النظرية.
البنى الاستعمارية في تحديد التراث
تنطلق معظم الدراسات التي تتعلّق بالتراث، من مدن أصبحت تعتبر "قاعدية"، كباريس وروما ولندن وغيرها من المدن الأوروبية، لتعرض تحليلاً لمبانيها وتاريخها ومتاحفها. وقد ظهّرت دراسات ما بعد الاستعمار الانحياز الذي أنتجه هذا المنظور: يعتمد تطوّر المدن والثقافات وتحضّرها على قربها أو بعدها عن المثال الأوروبي. المسألة تبدأ إذاً من النظريات حول التراث، كما بالتطبيق، والخلفية اليورومركزية لإبيستيمولوجيا التراث.
تقول لين ميسكيل في نقاشها عن الموروث والماضي، بأن "الماضي قد طُرح من قبل علماء الآثار الغربيين لبناء "غير-الغرب" أو "اللا-غرب"، كي يرسموا سلالة ثقافية وينحتوا هويات متضادة. لم يكن الماضي يوماً، حقلاً حيادياُ." وبداية من تحديد الماضي وهويات من عاشوا فيه، تمّ أيضاً تحديد من امتلك فيه ثقافة "متطورة" ومن لم يمتلك. كذلك اعتبر أغلبية المستشرقين الفرنسيين، حينما رؤوا الآثار الفرعونية وتطوّرها، بأنه من المستحيل أن يكون بناتها من هذه المنطقة، من المستحيل أن يكونوا عرباً ومصريين بالذات، لاعتقادهم بأن الغرب وحده باستطاعته إنتاج حضارات غنية. "علاوة على ذلك، فقد اعتمد استحواذ القوى الغربية على الثقافة العالمية، على فكرة مفادها أن الغرب هو الوحيد المالك للوعي التاريخي لماضيه الثقافي والماضي الثقافي للشعوب الأخرى. كانت الهيمنة الأوروبية، مرتكزة على مفاهيم التطوّر الحضاري، تعني نهب الثقافة المادية من حول العالم، لتزيين متاحفها الوطنية، في مدن كلندن وباريس وأمستردام. وقد تمّ عكس ذلك وتظهيره في تحليل دايفيد لووينثال بأن "الغربيون وحدهم يهتمّون بثقافات العالم المتنوّعة، ولهم وحدهم الكفاءة في الحفاظ عليها." هكذا، أعطى الغرب نفسه الحق بنهب ثقافات وتاريخ وآثار وفنون وتراث الشعوب المستعمَرة، ونشرها في مدنه ومتاحفه وجامعاته، كما ومقارنة كل ما ينتج عن الثقافات الأخرى به، ليصبح هو المعيار الذي يتمّ عبره مقارنة التطور والتخلف والحضارة أو غيابها.
كذلك اعتبر تيم وينتر، المتخصّص في دراسات التراث والاستعمار، بأن "الأزمة في الانتاج المعرفي عن التراث، هي في الفكر اليورو-مركزي: الإنتاج النظري والمعرفي للجسم المتنوع المسمّى "تراث" اليوم، هو منتوج لم يتمّ مساءلته إبيستيمولوجياً. حتى اليوم، يعتبر الغرب كالمنتج الوحيد لسياسات الحفاظ على الثقافية المادية." أي أن هناك نظرة عالمية المعارف والثقافات، وهي نظرة يورومركزية تعتمد على المعارف التي أنتجتها البورجوازية الأوروبية المدينية، دون النظر إلى الخصوصيات السياسية، الثقافية، الاجتماعية لهذه المعرفة وعملية إنتاجها ككلّ. يتركّز البحث المطلوب اليوم إذاً على المستويين الأونطولوجي والإبيستيمولوجي: ما هي طبيعة التراث ومن أنتج المعرفة التي تحدّد هذه الطبيعة؟ وبالتالي، كيف نستطيع كعالم-ثالثويات\ين أن نعي قيمة تراثنا، وننتج مواد معرفية أصيلة قادرة على تحديد هذا التراث والحفاظ عليه؟
الطبقة والذاكرة الجماعية
في كتابها "استخدامات التراث" تعرّف لوراجاين سميث التراث بأنه بحدّ ذاته عملية ثقافية، "هو ممارسة ثقافية، معنية ببناء وتنظيم عدد من المفاهيم والقيم." وتقول جوي ساذر-واغستاف في نصّها حول الذاكرة والتراث ، "عملياً، الذاكرة والتراث كلاهما منتوج جزئي، غير موضوعي، متنازع عليه، سياسي، يخضع لسياقات وظروف تاريخية معيّنة، لذا فهو متغيّر ومتبدّل ديناميكياً، غير ثابت." وهذه العملية لا يمكن أن تكون فردية، لأن التراث في جوهره منتج جماعياً. ولأنه كذلك، تهيمن البورجوازية عليه، فيصبح تراثها هو "التراث"، هو الشكل الشرعي والوحيد للموروث المعماري والفني والثقافي والتاريخي.
لذا، فمن الضروري من منظور ماركسي، أن ينتج تعريف التراث في أي منطقة أو دخل أية دولة، بشكل جماعي عادل، يعكس التنوع الثقافي للمنطقة المذكورة، ويضع في الواجهة المجموعات المضطهدة، أي أن يضع الطبقة العاملة والفئات المهمّشة في واجهة التمثيل. في لبنان مثلاً، يتمّ التركيز على الحفاظ على المباني التي تحوي زخرفات كثيرة أو القصور والبيوت الكبيرة (وهي المواد والبنى التي لم يكن ممكناً إلّا للبورجوازية بناؤها)، ممّا يعني أن بيوت الطبقة العاملة واللاجئين والفقراء القرى والمدن، وحاراتهم وأماكن عملهم ومساحات الترفيه التي كانوا يستخدمون، محكومة بالنسيان والتدمير.
السؤال الذي يجب أن تجيب النظرية المتعلقة بالتراث عليه هو: أية مدن ومناطق وقرى نريد؟ أهي، اعتماداً على النظرة اليورومركزية، فقط المدن الأوروبية ونسخاتها الاستعمارية في مدن العالم الثالث؟ أو، اعتماداً على الثقافة البورجوازية المهيمنة، بيوت البروجوازية ومقاهيها وأماكن اللهو والترفيه التي كانت ترتادها؟
على ما يجب أن ننتجه إذاً كجسم معرفي حول التراث، أن ينطلق "من موقع الاعتراف بالتنوع واعتماداً على مقاربة نظرية للتراث، تأخذ بعين الاعتبار الماضي الاجتماعي الثقافي والمستقبل، لعدة مناطق من العالم، وتعترف بالحاجة لكسر مركزية أوروبا والغرب، في الطريقة التي يتمّ التفكير فيها بالتراث، كما وقراءته كسلسلة من الترابط بين الانسان والمادة." لذا، عمل الجغرافيون الثقافيون cultural geographers وأنتروبولوجيو الثقافة على توسيع تعريف التراث ليصبح مادّة اجتماعية-ثقافية تحتوي على المفهوم الطبقي للانتاج الثقافي. كما أن التراث في عديد من الأحيان، هو موقع للذاكرة، مادية كانت أم غير مادية. نتكلّم إذاً عن المناظر والشعائر والطقوس، عن القصص والطبخ والحرف والممارسات الثقافية التي تصنع ثقافة منطقة ما. وهذا التعريف قادر على فتح نقاش حول مكوّنات التراث وقيمتها بالنسبة للجماعات.
من هذا المنطلق، نستطيع كشعوب أن نبدأ بعمل جماعي ضروري، للتفكير بماضينا وتحريره من البنى الاستعمارية، وتفكيكه من الأساطير التي نرزح حتى اليوم تحتها، عن تخلّفنا وتطورّهم، عن جهلنا وعلمهم، وعن جمالية تراثهم وفقر تراثنا، أي أن نعمل على إزالة أوروبا والغرب من مركزية الفكر الذي ينتج نظريات متعلّقة بالتراث.
في بداية حديثها عن ماهية التراث، تقول لوراجاين سميث بعد نقاش بدأته بأن "التراث" موضوع فضفاض، بأن هناك "خطاب مهيمن حول التراث، وحول الطريقة التي نفكّر بها فيه، ونكتب عنه." يشرّع هذا الخطاب "عدداً من الممارسات والأداءات التي تنتشر بين التركيبات الشعبية والمتخصّصة لماهية التراث، وتهمّش الأفكار البديلة والمنتمية لدراسات التابع لماهيته." في المقابل، فإن ما أنتجته الدراسات الماركسية في أواسط الثمانينيات حوّل شكل التراث من تعريف محدود مسيطر عليه من قبل البورجوازية والفكر الاستعماري، فحرّرته من التعريف السياسي المحافظ الذي يضع مباني البورجوازية وفنونها كشريعة يحكم من خلالها على قيمة ما تنتجه الشعوب. اليوم، من يسيطر على مجالات إنتاج الثقافة والتراث والحفاظ عليها من جهة، وقراءة التاريخ والذاكرة من جهة أخرى، هي القوى المستعمرة تاريخياً على المستوى العالمي، والبورجوازية على المستوى المحلي. ولكي تُكسر هذه الهيمنة، فمن مسؤولية الشعوب أن تعمل على السيطرة على أدوات إنتاجها الفكرية والمعرفة التي تحمل تجربتها، وأن تحافظ على تاريخها وتراثها وذاكرتها. ومن مسؤولية الطبقة العاملة إذاً، والفئات المهمّشة، أن تعي قيمة إنتاجها الفكري والفني والثقافي والمعرفي.

 

  • العدد رقم: 359
`


جنى نخال