الامتحانات الحضورية تحت المُساءلة

على الرغم من وضوح مساعي كارتيلات الجامعات الخاصّة لتوهين الجامعة اللبنانية، إلا أنّ ما يثير الدهشة ليس توجّه هؤلاء، بل المساندة التي يظفرون بها من أطقم تعمل، أو من المفترض أنها تعمل، لصالح الجامعة الوطنية. فالتآمر على الجامعة اللبنانية لا تحيكه وجوه غريبة عن مبانيها فقط، بل إن أكثر الأضرار التي تصيبها تنتج عن قرارات تكتب بأقلام تعود ملكيّتها للجامعة نفسها، ممهورة أيضاً بختم الجامعة اللبنانية. في الحقيقة، إن سبب ذلك، بنظري أنا، يعود إلى المغريات التي يحصل عليها كل من يساند عصابات رأس المال، ولكن، وأيّاً كان سبب ذلك، وبقطع النظر عمّا إذا كنت مصيباً في تشخيصي للسبب أم لا، فإنّه لا بدّ أن ينجم عن هذه المحاولات -الرامية إلى إنهاك الجامعة اللبنانية، وبالتالي دفع الطلاب نحو الجامعات الخاصة- حركات طلّابية، تحمل قناعة راسخة، بضرورة تشييد صرح جامعيّ وطنيّ صلب، لأجل بناء الدولة الّتي "لم تسمح الأحزاب والطوائف يوما في قيامها".

إن أكثر ما يسهّل معاينة التآمر على الجامعة، هو أن تآمراً من هذا النوع يملك بُنية واضحة، محدّدة المعالم، إذ أن التآمر في بلد مهترئ نظامه، يتمظهر بالطريقة نفسها، وبالشكل نفسه، في كل الميادين. إذ يحرص المسؤولون اليوم على الزجّ بالجامعة اللبنانية في المسار، أو السيرورة نفسها تلك التي أسقطت المدرسة الرسميّة، ابتداءً من تخفيض ممنهج لميزانيتها، والتي تقزّمت بسبب انفلاش سعر صرف الدولار مقابل الليرة، وليس انتهاء بالتعيينات والتوظيفات الّتي تعتمد على خليط غريب من الطائفية والمحسوبيّة.

إلاّ أن توهين هذا الصرح الوطني، كان سيُقابَل بالتأكيد بمواجهة مع آلاف الطلّاب الذين يرون فيه صلة الوصل الوحيدة بينهم وبين السوق. لولا دور التعمية - من أجل تجنّب المواجهة- الّتي تتمّ عبر تزييف الانجازات، والتّلاعب بالحقائق أو التعامل معها بانتقائية مضلّلة؛ كما حدث عندما أعلن المكتب الإعلامي في رئاسة الجامعة في ١٠ حزيران ٢٠٢٠ حصول الجامعة اللبنانية على المرتبة الثانية على جامعات لبنان في تصنيف مؤسسة كيو اس البريطانية، قبل أن يتبيّن، بعد الإطّلاع على الموقع الرسمي للمؤسسة، أن الجامعة اللبنانية احتلّت المرتبة السادسة. كما وقد تبيّن أيضا، أن دخول الجامعة إلى نادي أفضل ثلاثمئة جامعة في العالم، لم يكن لأجل مناهجها ومختبراتها وامتحاناتها، بل قام التصنيف اعتماداً على المساواة بين الرجل والأنثى وغيرها من الشروط المجتمعية إذا صح التعبير، لا الأكاديمية.

مسلسل ضرب الجامعة اللبنانية لا ينتهي، يتجدد باستمرارية، بل ويتكيّف مع الظروف التي تحيط بالجامعة وينسجم معها، حتى ظهرت آخر تمظهراته على شكل بيان رسميّ صادر عن مجلس العمداء، يقضي باستمرار جريان قرار إجراء امتحانات حضوريّة، كنا قد سمّيناها، نحن أغلب طلاب هذه الجامعة، "امتحانات الموت". القرار جاء بعد أن تم إرجاء تنفيذ الامتحانات لمدة أسبوع تحت ضغط حملات طلابيّة، أشهرت بيانات المقاطعة في وجه إداراتها، وتكاتفت لإيصال هاشتاغات تعبّر عن مواقفها إلى صدارة "ترندات" لبنان لأيّام عديدة. من الواضح أنّ القرار لا يستند إلى رؤية متكاملة تلحظ الظروف التي يمرّ بها لبنان، من الظروف الصحيّة التي فرضتها جائحة كورونا، وصولاً إلى الأوضاع الاقتصادية المتردّية التي سبّبتها الأزمات النقدية والمالية التي تلف البلد (إحدى الطالبات يكلّفها الانتقال من منزلها في الهرمل إلى كليتها في بيروت، ثم العودة إلى منزلها ٥٠ ألف ليرة لبنانية كحد أدنى). القرار الذي يعرّض الوطن بمجمله لكارثة صحيّة أقل ما يقال عنه أنه قرار لا مسؤول، يرتكز على قاعدة ضبابيّة، حيث لا دوافع واضحة تسوّغه، حتى أن البيان الذي صدر عن اجتماع العمداء مع رئيس الجامعة يخلو من أي مبرّرات تضفي واقعية، ولو بسيطة، للبنود التي وردت فيه. فمَن المستفيد من إرساء ثقافة عدم اكتراث الجامعة اللبنانية لمخاوف طلّابها وهواجسهم؟ ألا يصب هذا في خدمة الجامعات الأخرى؟ ثم ألا يُعَدّ هذا تآمراً؟

الكثير من التناقضات تعتري قرار الجامعة، لماذا التأجيل أسبوعًا إذا كانت الإدارة قد اتّخذت كل الإجراءات الوقائية التي من شأنها أن تكفل حماية الطالب؟ (والجدير بالذكر، أنّ الخطة لم تتضمّن تأمين نقل آمن للطلّاب، حيث يستخدم أغلب هؤلاء النقل العام من أجل الوصول إلى كليّاتهم)، ولماذا العودة بعد أسبوع إذا كانت الجائحة لا تزال تفتك بالمواطنين، بل ويتنامى عدد الإصابات المسجلة يومياً؟ وإذا كانت تجربة التعليم عن بعد، أكثر نجاحاً من تلك في الجامعات الخاصة، كما ورد على لسان أحد العمداء، فلماذا التمنع عن إجراء امتحانات عن بعد، كما فعلت الجامعات الخاصة أيضاً؟ ولماذا يظهر تخوّف أصحاب القرار على سمعة الجامعة (لم تخَف جامعات العالم على سمعتها) على حساب صحّة الطلّاب، وبعضهم يمتلك سجلّاً حافلاً بالانتهاكات التي تُدَحرج سمعة الجامعة؟

المشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل تَعَملَقت، واستحالت طامّة كبرى، بعد أن شكّك البعض (للأسف) بدوافع حملات المقاطعة. الكثير من أصحاب القرار في الجامعة يرون في المقاطعين طلّاباً كسالى يتسوّلون النجاح بطرق ملتوية – لن نسامح رؤيتهم هذه – الكثير من الطلاب الذين يساندون الحملة، وينخرطون في مجموعات الضغط، بل وبعضهم يشارك في تنظيم الحملة، هم من المتفوّقين في صفوفهم، وبعضهم يتابع في كليّتين في آن واحد، ويتميّر في الكلّيتين أيضاً. في حين أن جميع المنضَوين تحت شعار حملات المقاطعة يتشاركون هاجس بقائهم وأُسَرهم على قيد الحياة. مع التشديد، على أن أغلب المنكفئين عن المشاركة في هذه الحملات، يرغبون بالامتحان الحضوري تخوّفاً من مشكلات الانترنت والكهرباء (والّتي يتوجّب على إدارة الجامعة صياغة حلول لها)، لا لرجحان الحضوريّ على الأونلاين.

بناءً عليه، لا بدّ من أخذ كل هذه النقاط على محمل الجد. وعلى الرغم من بساطة الدوافع التي تُعَقلن خيار الامتحانات عن بُعد، إلّا أنّنا نجد تجاهلاً واضحاً لهذه الدوافع. إنّنا نتمنّى من أنفسنا وزملائنا التكاتف من أجل حماية أنفسنا وحماية أهلنا. والجدير بالذكر أنّ من الممكن أن يتعاظم تهميش صوت الطلاب في المستقبل، إذا ما سقط مرّة أخرى.