إلا التعليم

بعد دخوله في أزمة نقدية، مالية، واقتصادية، يدخل لبنان الآن في الانهيار البنيويّ العميق. يتعنّت النظام السياسي ومراكز القوى المالية والاقتصادية ويمضون في تنفيذ خطتهم الهادفة لإعادة ترتيب المجتمع بما يحفظ النموذج القديم معدّلاً. فيما يفعلون ذلك، تتجاوز الأزمة مسائل الخسائر المحققة في المصارف ومصرف لبنان، تبخر الودائع، تدهور سعر صرف الليرة، معدلات التضخم، والعجز المزمن في ميزان المدفوعات، وغيرها. وهي مشاكل، نظرياً، يمكن وضعها على سكة الحل متى وُجدت الإرادة السياسية المستعدة للقيام بما يلزم لحلّها. وهذه تُحلّ فورياً أو يأخذ بعضها فترات زمنية محددة.

بيد أن الانهيار يتعمّق ويتجذّر أكثر وصولا إلى انهيار بُنىً يستغرق معالجته، ولو كان فلاديمير لينين في قصر بعبدا، وقتاً طويلاً وأجيالا آتية، كالتعليم والطبابة والحالة الصحية للمقيمين ومستويات عيشهم والرفاه.

والأهم من السؤال عن سعر الصرف اليوم، هو السؤال كم سينخفض معدل العمر عند الولادة لسكان لبنان؟ هل ستنتشر أمراض وأوبئة نتيجة عدم التمكن من الوصول للقاحاتها؟ هل سيتغيب أطفال عن المدرسة نتيجة إصابتهم بالجدري؟ هل سيتمكن أهل البلد من العناية بصحتهم؟ والوصول لطبيب أسنان؟ كم ستكون مدة انتظار موعد لدى طبيب؟ بأي كلفة؟ كم ستكون نسبة القادرين على دفعها؟

أما بما يخص التعليم، فمن سيتعلم؟ وماذا سيتعلم؟ بأي كلفة؟ ولأي غرض؟

يبدو بوضوح، وانطلاقاً من العام الدراسي الحالي، أن التعليم لم يعد حقاً بديهياً بمستطاع جميع سكان هذا البلد الوصول إليه. سحقت الأزمة البنية التحتية الهزيلة أصلا ورفعت الأكلاف. يحول "رفع الدعم"، وعلى نحو أدقّ، غياب خدمات عامة مستدامة وكفوءة كالنقل والطاقة والاتصالات، دون التمكن من تشغيل المدارس والجامعات ووصول الأساتذة والطلاب إليها وإتمام العملية التعليمية، على نحو شامل. فقد ارتفعت الكلفة التشغيلية، وكلفة النقل، وكلفة السكن بشكل لا يسمح بالتكيف معها. نتيجة ذلك، سيكون العام الدراسي الحالي عام الدخول في مسار التسرّب المدرسي والجامعي الجدي ولاحقاً مسار الارتفاع الملحوظ في معدلات الأميّة. والتعافي من هذه الآفات يتطلب سنواتٍ ومواردَ وتنظيماً وجهوداً قياسية يصعب تخيلها في السياق اللبناني. 

أطلق الاقتصادي الأميركي غاري بيكِر، نال جائزة نوبل عام 1992، نظرية "رأس المال البشري". ويمكن تلخيصها بأن بيكر ينظر للتعليم كاستثمار وأن الاستثمار في التعليم مشابه للاستثمار في أدوات الإنتاج. لاحقاً، ظهرت دراسات تجريبية وإحصائية تؤكد طرحه وبيّنت أن كلّ سنة تعليمية إضافية تزيد من دخل الفرد بنسبة 10%. وهو عائد كبير على الاستثمار مقارنة بنسبة 2% مثلا كعائد على الاستثمار في سندات الخزينة الأمريكية!

وإذا أخذنا توليد الدخل (بأي شكل) بعين الاعتبار عند تعريف الثروة فإن رأس المال البشري يستحوذ على 62% من مجمل الثروة في العالم، وذلك أكثر بكثير من حصة الثروات الطبيعية من مجمل الثروة. (الالتباس بين الثروة ورأس المال خاص بالسياق، ليسامحني الماركسيون).

عالمياً، تنفق الحكومات والعائلات والأفراد والقطاع الخاص أكثر من 5.6 تريليون دولار سنوياً على التعليم. ويستحوذ التعليم على 20% من إنفاق الحكومات. وفي لبنان، كان التعليم ركيزة أساسية للنظام الاقتصادي بهدف تصدير اليد العاملة الماهرة وتلقي تحويلاتها التي تتراوح سنويا بين 7 و8 مليارات دولارات سنويا. وتستمر عملية التصدير على نحو كثيف الآن. إلا أن انهيار التعليم في لبنان سيضع حدا حتى لهذه العملية. بعد سنوات، لن يعود بالإمكان "إنتاج" اليد العاملة الماهرة هذه لتهجيرها\تصديرها أساسا.

لكن أهمية اليد العاملة هذه لا تكمن بالشكل المشوّه الذي يستغلها عبره النظام. إن الخرّيجين أو اليد العاملة الماهرة والأهم عملية إنتاج هذه اليد العاملة هي "الخميرة" أو الذخيرة التي تكاد تكون وحيدة التي يمكن الاعتماد عليها على مستويين؛

أولا، لحفظ المجتمع من المصير الأبوكاليبسي. على سبيل المثال، شهد القطاع الطبي هجرة جماعية للأطباء. وبالتوازي ارتفعت كلفة "إنتاج" طبيب\ة جديدة بشكل يحصر دراسة الطب بقلة قليلة. أنتَ تحتاج إلى أكثر من 150 مليون ليرة لبنانية سنوياً لدراسة الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت، في ظل قدرة استيعابية منخفضة للجامعة اللبنانية حيث التعليم المجاني. إذن، ينزف لبنان أطباءه. وبالتالي إذا أردنا مجتمعاً يستطيع فيه السكان الوصول لطبيب لا بدّ من حماية التعليم، تعميمه، الرفع من كفاءته وتحسين نوعيته، وإعلان مجانيته. وهذا ليس حلماً ولا خيالا بل بالإمكان تمويله بنظام ضريبي كفوء.

ثانياً، الحفاظ على التعليم هو الحفاظ على فرصة الاستفادة من يد عاملة ذات خبرات وكفاءة يكون بالمستطاع استغلال هذه الخبرات ونقلها من الخارج الذي عملت فيه، في سياق الاستثمار اقتصاد البلد وبنيته التحتية وتطويرها.

وإضافة لكل ما سبق، لماذا لا يسأل كل أب وأم في لبنان: من قال أن تعليم أطفالي هي مهمة تقع على كاهلي أنا فقط؟ من قال أن الآباء والأمهات مضطرون وحدهم لتحمل أعباء أقساط أولادهم المدرسية والجامعية والانشغال في إيصالهم للمدرسة والبيت والتفرغ لمتابعة تعليمهم في البيت بعد المدرسة. الأبناء هم أبناء المجتمع أيضاً، لا الأهل وحدهم. وتقع على المجتمع وناظمه، جهاز الدولة، تنظيم التعليم ورفع كفاءته وجودته وشموله. كيف يفعل ذلك؟ كيف يموّل ذلك؟ وفقاً لمبدأ يجب أن يتحكم أكثر بكثير من الخيارات في لبنان؛ من كل حسب قدرته لكل حسب حاجته. يموله من الضرائب على الثروات التي لا تزال مكدسة وتتراكم. ولمَ يجب أن يفعل ذلك؟ بهدف التقدم ولئلا نصل ليوم يصطفّ أهل البلد في "طابور" بعثة منظمة بيل غايتس لتلقيح الأطفال أو مركز اليونيسيف لمحو الأمية. وهل يمكن ترك التعليم لاقتصاد السوق وقطاعه الخاص؟ يمكن طبعاً، لكن السوق سيعلّم بقدر ما يحتاج. نخبة قليلة لإدارة مجتمع البؤس بما يعظّم ربح المتحكمين فيه.