المشروع الوطني الفلسطيني .. بين مصالح النُخب المسيطرة والحسّ السليم

هناك فرق شاسع بين السياسة الساعية لتحقيق مصالح نخب فوقية، من حكاّم منتفعين يتسلّحون بمنظومة من المفاهيم المزيّفة، ويشيعون الوهم، مستندين على حال الضعف والهزيمة، بل ويسعون لإدامتها، لتصير حقائق راسخة عبر تحالفاتهم مع القوى الدولية والإقليمية، وبين السياسة الملتزمة حقوق، وآمال، وتطلعات الشعوب المُستمَدة من الوعي الجمعي لها، والراسخ في ذاكرتها، تستعين به في تجاربها المتراكمة عبر الأجيال ليشكّل هويتها الوطنية والقومية. بهذا المعنى تأسّس المشروع الوطني الفلسطيني، كحالة مقاوِمة مستندة إلى الوعي الفطري للفلسطيني العادي، وبحقوقه التاريخية الطبيعية.

ليس استخفافاً أبداً حين نقول أنه تأسس من وعي الفلسطيني العفوي، صاحب الحقّ، الذي لا يحتاج إلى الكثير من العناء للتعبير عن ذاته، والتعريف بحقوقه، من هو..؟ وماذا يريد..؟ إنّه الحسّ السليم  على حدّ تعبير غرامشي، في إدراك تشكّل وعي الصراع وخوضه بدءاً من تحديد التخوم بين معسكرنا ومعسكر الأعداء، وقد تجسّد هذا الوعي في الإرهاصات الأولى للمشروع الوطني الفلسطيني، في الميثاق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٤، حين كانت فلسطين كلّها من البحر إلى النهر بشعبها وأرضها ومقدّساتها، زيتونها وتينها، فلسطين فوق الأرض وتحتها، بكلّ بساطة تتعرّض لهجمة استعمارية هي مقدّمة للسيطرة على الوطن العربي، ومقدّرات الشعوب العربية، وبالتالي على الجميع،  فلسطينيين وعربٍ، وحتى أحرار العالم المشاركة في التصدّي له ومقاومته. هذا هو جوهر المشروع القومي للشعب الفلسطيني.

المشروع الوطني يدخل دهاليز السياسة

لكن ذلك لم يدم طويلاً، حين بدأت النخب تبحث عن مصالحها أدخلت المشروع الوطني دهاليز السياسة والمراهنات، فصار يتكيّف بما يتناسب ومصالح النخب المسيطرة، فتحوّل الميثاق القومي لمنظمة التحرير، إلى الميثاق الوطني الفلسطيني عام ١٩٦٨ في دورة المجلس الوطني الرابعة، ثم البرنامج المرحلي عام ١٩٧٤، ثم تقزّم وتشوّه أكثر فأكثر إلى أن تحوّل إلى مشروع مسخ في اتفاق أوسلو.

أحد أهم الدروس المستخلصة، هو أن تدمير الرموز لا يفضي بالضرورة إلى تدمير الحقائق الأصيلة العميقة الراسخة. كلّ المخططات والمشاريع والسياسات والممارسات، التي تتالت منذ بداية المشروع الاستعماري لفلسطين، التي هدفت بشكل واضح ومُركّز لإنهاء كلّ الرموز الدالة عن فلسطين طبعاً بهدف إلغائها، وكان آخرها أوسلو بنسختيه القديمة والمُحدَثة، والمٌسمّاة صفقة القرن، ربما استطاعت تدمير "المشروع الوطني" كوعي نخبوي للحقوق الوطنية مُفصّلاً على مقاس مصالح النخب المسيطرة، لكنها أبداً لم تنل من فكرة الحقّ الراسخ في الوعي الجمعي، أي وعي الحقوق في الحس السليم في الوجدان الشعبي الفلسطيني والعربي، لأن تشويه المشروع الوطني ومسخه في وعي النخب المسيطرة لا يعني أبداً تشويه الوطن في الوجدان الشعبي، حيث يستقرّ عميقاً واضحاً ونقياً في نفس كلّ فلسطيني وعربي.

اليوم بعد ثلاثة وسبعين عاماً على النكبة، وثمانية وعشرين عاماً على اتفاقية أوسلو، علينا الإعتراف أن العدوّ تمكّن من خلق وقائع وعمّم منظومة مفاهيم باتت وللأسف في ذهن النخب المسيطرة، كأنها حقائق ثابتة تدافع عنها بصلافة، فقد أفرغ المشروع الوطني من مضمونه الوطني الشامل ليتجسّد كرهانات سياسية، ومصالح وممارسات لنخب طبقية، استسهلت هذه النخب التخلّي عن أكثر من مليون ونصف من الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام ١٩٤٨، ثم أدارت الظهر لملايين اللاجئين في الشتات، ثم أقصت أكثر من مليونين في غزة، وغضّت الطرف وربّما شجّعت في مناسبات كثيرة على حصارهم وقتلهم، وبينما كان الاستيطان يبتلع الأرض يلتهم القدس كانت مشغولة بتسويق الخداع فيما يسمى السلطة والحكومة وانتخابات حيث لا تمتلك أية سلطة حقيقية في مربعات جغرافية مقسّمة لمناطق أ.. ب.. ج، وفوق كلّ ذلك تعتبر التنسيق الأمني مع العدوّ مقدّساً وجزءاً من المصلحة الوطنية العليا.

الوجدان الشعبي يستعيد مشروعه الوطني

لقد أدّى الانزياح التدريجي في وعي المشروع الوطني الفلسطيني في ذهن النخبة السياسية المسيطرة إلى تفكيك وتجزئة الشعب الفلسطيني إلى أربعة أجزاء، لكلٍّ منها مشروعه بطابعه الإقليمي الجغرافي، ولكلٍّ منه تطلعاته وأهدافه بما يتناسب مع وعي ومصالح النخب المسيطرة، وبما تسمح به التوازنات الإقليمية والدولية. الاوّل في المناطق المحتلة عام ٤٨، والثاني في مناطق الضفة والثالث في غزة، والرابع في الشتات، ومن الطبيعي أن يتجزّأ كلّ جزءٍ إلى أجزاء أيضاً، تماشياً مع الظروف الخاصة والمعطيات المحلية، كما هو حاصل في الشتات بحسب البلدان المضيفة للاجئين، وفي الضفة بحسب تقاسم السيطرة مع الاحتلال، وفي المناطق المحتلة عام ٤٨ بحسب من يعترف بهذا الكيان، ويشارك في البرلمان ومن لا يعترف به. لقد أوجدت هذه التجزئة وعياً خاصاً لكلّ تجمّعٍ بحسب مصالح النخب المسيطرة، وتحوّلت هذه النخب إلى كهنة وحرّاس لهذه التجزئة، والمدافعين عنها تحت مسمّيات الواقعية والتنظير لضرورات إدارة مصالح الناس، وقد تسرّب هذا الوعي وبشكل كبير إلى اليسار الذي انقسم بين من يعتبر نفسه رائداً في تمرحل المشروع الوطني، وآخر تماشى مع هذا التدرج بسبب العجز، وبحجة الخوف من البقاء وحيداً خارج الإجماع. هذا ما كشفته تجربة استحقاق انتخابات المجلس التشريعي الأخيرة، التي ألغيت بحجة عدم سماح إسرائيل اجراءها في القدس ولكن الحقيقة تقول إن هناك أسباباً تتعلّق بالحسابات الفئوية أيضاً.

كان الجميع يتغنّى بانتفاضة السكاكين، وعمليات الدهس حتى أولئك الذين يتربّعون فوق كرسي القيادة منذ نصف قرن ويزيد، وتزيد أعمارهم عن الثمانين، بل ويعتبر البعض منهم أن هؤلاء الفتية يستشهدون من أجل تحقيق رغبات القيادة والتزاماً بتوجّهاتها.!! والجميع حاول ركوب صهوة هبّات القدس والمدافعين عن المسجد الأقصى، واستخدموها كمادة للتبجح والتطهر، تغنّوا بانتصار البوابات الالكترونية في الأقصى. والجميع أيضا يدركون حجم السخط في الشارع، في كلّ مكان في الشتات المُهمَل والمتروك لمصيره.

لقد كان استحقاق الانتخابات التشريعية الملغاة، كاشفاً لليسار واليمين أن لا أحد يعطي أية أهمية لغضب وسخط هؤلاء الناس العاديين، وأنه لا يؤخذ في الحسبان رأي الملايين المشرّدين في الشتات عند تقدير الموقف واتخاذ القرار، فحسابات الجميع يساراً ويميناً استندت لحجج باهتة، وأشاعت وهماً حين أدارت ظهرها للاعتبارات الوطنية الشاملة، واعتمدت في حساباتها للمشاركة في الانتخابات لاعتبارات جغرافيا التجزئة، ومصالح فئوية بذريعة الرغبة الشعبية في هذه الجغرافيا المشاركة في الانتخابات، والدليل أعداد الذين سجّلوا للتصويت، بينما لم يسأل أحد لماذا لم يُسجّل الشهداء الذين سقطوا في عمليات الطعن والدهس أسماءهم..؟ والملايين المشرّدين لا جدوى من تعدادهم.!!

غرور القوة يدفع العدو لارتكاب خطأٍ فادحٍ

في ظلّ هذا التيه، والفوضى في المفاهيم، التي كشفها استحقاق الانتخابات التشريعية، ارتكب العدو خطأً فادحاً، لم يستطع التمييز بين الضياع الذي تعيشه الطبقة المسيطرة في مأزق تقاسم المصالح، والوضوح الشديد لدى الشرائح الشعبية، وانفكاك هذه الشرائح الواسعة من أيّ التزامات أو ضوابط سلطوية أو حزبية. اعتبر العدو أنه يستطيع استغلال هذه الفوضى لتوجيه ضربة قاضية للقدس، من خلال تفكيك التجمعات الكبيرة ٣٥ ألف نسمة من الفلسطينيين، سيمكّنه ذلك من إحكام قبضته على القدس. لكن الهبة الشعبية للمقدسيين والفلسطينيين في مدن عكا وحيفا ويافا واللد لم يستأذن أحداً، عبّرت هذه الجماهير بحسّها السليم عما يدور في خلد كلّ فلسطيني، وحدّدت من هي وماذا تريد، لتعلن بصوتٍ عالٍ أن القدس مناسبة لإنهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة. مرحلة اختمرت عبر تراكمات على مدى سنوات. أسهمت سياسات العدو ذات الطبيعة العنصرية والتي تزداد تغوّلاً بسبب تفكّكنا وغرور القوة.

ومن هذه العوامل التي تراكمت وتجمّعت على مدى عقود

  • سقوط الوهم الذي أشاعه اتفاق أوسلو بأنه ممر لقيام دولة واستقلال فلسطين، فبدل من أن يؤدي إلى دولة أوصلنا إلى معازل وباستونات.
  •  سقوط مخطط تدمير سوريا، كعمق لمحور المقاومة، وثقافة الرفض نصيراً قويا للشعب الفلسطيني.
  • طبيعة المشروع الصهيوني العنصري الأسوأ، يكشف في كل مرحلة عن وجه بشع جديد يزداد صلفاً واستعلاءً، وكان آخرها تحت مُسمّى قانون العنصرية، وقد حول أكثر من مليون ونصف فلسطيني إلى سكان مضطهدين وليسوا أصحاب الأرض.
  • تبلور محور المقاومة في المنطقة، ما أسهم في تراكم قوة المقاومة الفلسطينية، ولا سيما حركة حماس التي استطاعت أكثر من غيرها إعداد بنية مقاومة فعّالة ومتطورة.

 

وعلينا هنا الإشارة لخطورة المبالغة في اعتبار أن ما أنجزناه هو انتصار لفصيل أو لإيديولوجيا. إذا كان هناك من إنجاز، فهو تقدّم على مستوى وعي الصراع، والعودة لأصوله، وهو نتيجة لتراكم مستمر على مدى عقود.

سمات المرحلة الجديدة

عندما ألغيت الانتخابات التشريعية، خبت الرهانات والحسابات والمصالح الفئوية الضيقة، فخرجت إلى السطح عناصر القوة الكامنة، فتشابكت مجموعة من الرمزيات التي لها عميق الأثر في الوجدان الشعبي الفلسطيني والعربي، رمزية القدس مع رمزية الهبة الشعبية في المدن المحتلة عام ٤٨ في مدن وقرى الجليل، من عكا وحيفا ويافا واللد وأم الفحم، وباقي المدن والبلدات، وكلّ ذلك على إيقاع قوة المقاومة المؤثرة في عمق العدو. فكان الإحساس العفوي لعامة الناس يقول أننا على اعتاب مرحلة جديدة.

  • إن دخول المقاومة إلى عنوان القدس، حولها من عامل قوة لغزة إلى عامل قوة وطني مرتبط بكل القضايا الوطنية الجوهرية، ولكن لا بد من التنبّه إلى أنه من الخطورة بمكان المبالغة في التركيز على البعد العسكري البحت، برغم أن المقاومة لها الدور الكبير في الدفع للوصول لهذه الذروة. كما من خطورة المبالغة في السعي لحصد نتائج فئوية لصالح فصيل أو حركة، أو أيديولوجيا.
  •  دخول شعبنا في المناطق المحتلة عام ٤٨ في الصراع، والتعبير عن هويته الفلسطينية، واستعداده لكل أشكال النضال، أنهى ما سمي بالبرنامج المرحلي، ليعيد الصراع إلى أصله، كمشروع وطني فلسطيني شامل وأصيل.
  •  أما النقطة الثالثة وهي بحاجة إلى استكمال، استعادة العمق العربي الشعبي عبر تجديد وعي حركة التحرر العربية، التي تكيفت بدورها مع رهانات الأنظمة العربية، وتحولت هذه القيادات من قيادة تحررية إلى جزء من السلطوية المتحكمة، والمحكومة بتوازنات واعتبارات حماية الأنظمة.

إنّ استنهاض مشروع وطني أصيل خال من الشوائب هو حكماً على أنقاض المشاريع الوطنية التفكيكية المتكيفة مع تقدم استراتيجية العدو، والخاضعة لتوازن القوى الدولية والإقليمية، ورهانات النخب الفلسطينية المسيطرة في كلّ تجمع فلسطيني، ويحتاج ذلك بالضرورة إلى التقاط اللحظة الثورية الراهنة، لإعادة صياغة منظومة مفاهيم أصيلة مستندة إلى الوعي الشعبي الوطني والقومي التحرري الشامل. إن هذا المهمة ضرورية لإسقاط النخب السياسية التقليدية المسيطرة، والمتناغمة مع بعضها، في كلّ جغرافيا وخصوصاً تلك التي تعجز عن تجديد نفسها ودورها، فستقاتل بشراسة للعودة بنا إلى المربع الأول حيث تنعم بامتيازاتها، فهي لن تبادر لفسح المجال لتشكّل قيادات لديها وعي ثوري جديد لقيادة مرحلة جديدة. 

*عضو اللجنة المركزية العامة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين