إثيوبيا: رُبّ شرارةٍ أحرقت سَهلًا * (1)

الساعة الثالثة ما بعد منتصف الليل، يوم الأربعاء الواقع فيه الرابع من شهر تشرين الثاني العام الماضي ٢٠٢٠، في غفلة، أطلّ رئيس الوزراء الإثيوبي «آبي أحمد»، حائز على جائزة نوبل للسلام عن عام ٢٠١٩، عبر التلفزيون الحكومي ليُعلِن حالة الطوارئ مدّة ٦ أشهر من أجل الحرب على إقليم تيغراي وشعبه وجبهة تحريره («الجبهة الشعبيّة لتحرير تيغراي»).

فرمان الحرب هذا ظَهَر في ”ليلة بلا قمر“، إلّا أنّ أحدًا لا يستطيع أن يدّعي فجائيّة هذا المآل والمَسلَك. منذ سقوط التحالف الحاكم، والذي كانت تتزعّمه «الجبهة الشعبيّة لتحرير تيغراي» بين عام ١٩٩١ حتى إسقاطه عام ٢٠١٥، ثمّ الشروع بوتيرةٍ مُتَسارِعة، منذ تنصيب «آبي أحمد» على رأس الحكومة عام ٢٠١٨، في تفكيك أنظمة ومشاريع الإدارة السابقة، حتى أصدرت لجنة الإنتخابات قرارًا بإرجاء الإنتخابات الوطنيّة التي استُحِقَّت في تشرين الأوّل من عام ٢٠٢٠ بسبب تداعيات جائحة كورونا حتى أجلٍ لم يُسَمّى (قبل أن تعود لاحقًا، تحت ضغط التظاهرات، وبعد اعتقال رموز المعارضة من كل القوميّات، وتحدّد مدّة التمديد القصوى بسنةٍ واحدة). 

تَأتّى عن هذا أن استغَلَّه الحزب الغالب في البرلمان لِتَبقى زمرته التكنوقراطيّة برئاسة آبي أحمد مُنفَرِدةً في الحكم لِمُدّةٍ إضافيّة، ومجانّيّة؛ فَرَفَض المبادرة التي طرحت الإدارة التشاركيّة لهذه المرحلة الفاصلة. تَعَنُّت «حزب الإزدهار» (الحزب الحاكم) دَفَع بالجبهة التيغرينيّة إلى الرفض، إلى نزع الشرعيّة عن الجهاز الحاكم فنظَّمَت الإنتخابات الفرعيّة في إقليم تيغراي وحازَت على أكثريّة غالبة من أصوات المقترعين/ـات كما دومًا. مِن جِهَتِها رَدَّت زمرة آبي أحمد بأن لم تعترف بنتائج الإنتخابات التيغرينيّة، جَمَّدَت حصّة الإقليم من الميزانيّة القوميّة، ثمّ أعلنت العداوة والقتال ضدّ الجبهة التي حكمت إثيوبيا يومًا والآن صارت (أو أُعيدَت) على لوائح «الإرهاب والتخريب». 

قد يظهر في هذا العرض أنّ الشيطان سارَ واثق الخطوة إلى الحرب، لكن ما نرى هو أنّ الطبقة الحاكمة في إثيوبيا قد أشعلت بشرارة واحدة نارًا لن ترتدّ بسرعة، ودخلت تُقامِر بمستقبل البلاد في حرب (كالمغامرة) قد تستمرّ لشهور، وقد تمتدّ لسنين. قد ينتج عنها قَلبٌ ثوري للأوضاع في البلاد (والقرن الإفريقي) أو أنّ خرابًا سيحلّ على إثيوبيا (والقرن الإفريقي).

 

راس العُلا إنغيدا: يبدو منظرهم مخيفًا، لكنّهم ليسوا إلّا نُمورًا مِن وَرَق * (2)

تشرين الثاني ٢٠٢٠، عساكر آبي أحمد، مِن 'قوّات الدفاع الوطني الإثيوبيّة' تحتلّ «ميكيلي» عاصمة إقليم تيغراي. أمّا بعد، تَبَرَّز رئيس الوزراء مزهوًّا بِنَصرٍ سريع على 'العناصر الإجراميّة'، على شبح التمرُّد الشعبي. وفي هذه الحرب اتّحدت في حلفٍ مُقَدَّس القوى المُسَلَّحة الحكوميّة، ميليشيات من قوميّة «الأمهرة» تنظّمت وتسلّحت برعاية الحكومة، والعسكر الإريتري الذي لبّى دعوة آبي أحمد على عجلة، وعلى عجلة استأنف حربًا قديمة بينه وبين التيغرينيّين. لكن «الجبهة الشعبيّة لتحرير تيغراي» حركةٌ مسلّحة تصلّب عود مقاتليها وقادتها خلال عقود من الكفاح والقتال، وهي تحوز على العدّة والعتاد والخبرات اللازمة، من تجارب سابقة، لمقارعة أخصامها الثلاثة في هذه الحرب؛ استمرّ التحالف هذا في التضييق على الإقليم فواصَلَت «قوّات الدفاع عن تيغراي» إطلاق النار حتى بعد انسحابها إلى الجبال من «ميكيلي»، قبل إطلاق «العمليّة: العُلا» (تيمُّنًا بالزعيم الإثيوبي التيغريني «راس العُلا إنغيدا» الذي كافح طويلًا خلال القرن الـ ١٩ ضد القوى الإستعماريّة) في حزيران الفائت والعودة إليها ظافرةً وسط التفاف شعبي على شرعيّتها، تغذّى هذا الإلتفاف على المشاعر القوميّة التي استعرّت لدى شعب تيغراي بعد حضور الأمهرة والإريتريّين فاستحضر في الذاكرة فظائع عاناها الإقليم تاريخيًّا من احتلالات واضطهاد قومي. ثُمّ: 

  • سيق الآلاف من عساكر التحالف إلى المعتقل في استعراض مُهين انتشرت مقاطعه على الشاشات. 
  •  فَرَّت العناصر الناجية إلى قواعدها خارج المدينة. 
  • سارعت قيادة الجيش الإثيوبي إلى إنكار الحَدَث قبل أن يُصبح حقيقة نافذة خلال أيّام معدودة. فاعترف «آبي أحمد» بالهزيمة عندما أعلن وقف إطلاق النار من جهته. 

الآن، لا عودة لعقارب الساعة إلى الوراء بهذا النصر؛ بل المشهد صار أكثر تعقيدًا. الجبهة التيغرينيّة الآن تتمركز في مواقعها المتقدّمة وعصيٌّ اقتلاعها على الحكومة. والنصر ليس قاب قوسين من المتمرّدين، فالتقدّم الآن مشروط بامتداد النار إلى باقي الأقاليم. في هذا البرزخ الآن، ومع اقتراب موعد الإنتخابات، لا يبدو مسار الأمور في صالح التكنوقراطي الذي فشل في نزع سلاح وتفكيك اعداءه وفرض إرادته وسلطته السياسيّة، وما عدا ذلك من مخططاته منذ ترؤسه للحكومة.

 

آبي أحمد: واللهِ واللهِ، لَن نَقومَ بأيّ ضَرَر.*

ابتدأ «آبي أحمد» مسيرته في رئاسة الوزراء وهو عازمٌ على تفكيك اثنين من عواميد 'النظام القديم'، «الفيديراليّة الإثنيّة» و«التوجيه الإقتصادي». عَمَد أوّلًا إلى تأسيس «حزب الإزدهار»، على أسس لا تعتمد معايير الإنتماء الإثني، لتجاوزه إلى نموذج مركزيّة الدولة الشاملة، بالتالي خفض مستوى صلاحيّات الإدارة الذاتيّة للأقاليم. ومن خلال الترغيب والترهيب، اجتذب قاعدةً لحزبه حينًا بالتفاوض مع أطراف التحالف الحاكم سابقًا وأحيانًا بالقمع الرهيب للمعارضة. ليس من ذلك بدّ إن أراد تطبيق مشروعه ورؤيته السياسيّة، الإجتماعيّة والإقتصاديّة.
وبعد حملة اعتقالات وقتل لمئات من المعارضين وقادتها، بدأ كـ«إصلاحي» مع فرقته من المستشارين المتخصّصين في مشروعه لسحب الدولة من الإقتصاد وخصخصة قطاعاتها الإنتاجيّة الكبرى، كطريقة لاجتذاب الرساميل الإستثماريّة إلى السوق الإثيوبيّة. جذب الرساميل الإستثماريّة على مبدأ «عدم الإنحياز»، أي شدّ الحبال بين قطبي الإستثمارات الدوليّة: «جمهوريّة الصين الشعبيّة» و«الولايات المتحدة الأميريكيّة» (وأوروبا).

 

آبي أحمد: إنّ وراء الأكَمَة ما وراءها* (3)

تدفّقت تِباعًا رؤوس الأموال ''المتّجهة شرقًا'' من الغرب وتراكمها في استثمارات وقروض سخيّة من «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» والشركات متعدًدة الجنسيّة والمصارف الغربيّة. بدأت، أو ظَهَرت، الإدارة الإثيوبيّة في مرحلة جديدة حين اصطفّت في تصريحاتها لصالح الدعاية 'للتمويل الغربي'، حتى صارت تنتقد شروط التسليف الصينيّة بشكل متواصل في المؤتمرات والتصريحات الإعلاميّة. حتى شبّه «آبي أحمد» الإقتراض من «النقد الدولي» و«البنك الدولي» باستدانة المرء من أمّه؛ بينما الأذى يلحق بإثيوبيا في استلافِها من ''الدول الأُخرى''. إذًا هو أفشى سرّه، كَمِثل الفتاة في القصّة العربيّة، غلبها الشوق إلى محبوبها الواقف وراء الأكَمة (تَلٌّ عالٍ) فضاقت بطلبات أهلها تعوقها حتى نبرت بهم: إن وراء الأكمة ما وراءها؛ ضاق «آبي أحمد» بالشروط الصينيّة فَهَمّ لملاقاة ''أمّه'' وراء الأكمة.

 

يَرفَع حَجَرًا لِيَسقُط على قَدَمَيه، هذا مَثَلٌ صيني قديم، يُضرَب لِتَصَرُّفات بعض الحَمقى.* (4)

”هذه الحرب مُخزِية. بِلا هدف. إنّ شعب تيغراي وشبابه، وقوّات أمنه لا ينبغي لهم الموت في هذه الحرب العبثيّة. إثيوبيا هي وطنهم“. هذه كانت كلمات نائب قائد الجيش «برهان جولا» على شاشة التلفزيون الحكومي. فعلًا أنّه أمر مُخزٍ أن يموت ويشرّد عشرات الألوف وتحوم المجاعة على شعب كامل كـ 'تدبير مؤلم' لفرض وتطبيق خطّة ورؤية زمرة المتخصّصين الحاكمين بأمرهم؛ أو داخل رأسُ رأسِ مجلسهم. أو أن تنتفخ قواعد جذب الإستثمارات حتى تتسبّب في حربٍ أهليّة في أحد الأقاليم، وتكاد تمدّ في عرض البلاد. 

العامل الإثني في ظرف «إثيوبيا» السياسي حاليًّا يكاد يطيح بالوحدة السياسيّة والإجتماعيّة للدولة أكثر من أيّ مرحلة مَضَت. حضور الجيش الإيريتري، الذي بينه وبين إقليم تيغراي عداوة منذ عقود تخلّلها عراك دموي، ومشاركته في القتال ضد التيغرينيّين إلى جانب ميليشيا الأمهرة، التي قام شعب تيغراي تاريخيًّا بصدّ سطوتها القوميّة وبين الإقليمين تاريخ له جانب مظلم، كلّ هذا دفع الى استعارّ نار المشاعر القوميّة بشكل فئوي بين الأقاليم، الآن يواجه «آبي أحمد» خطر ارتداد الأمهرة ضدّه بعد الهزيمة التي حقّقها عليهم تيغراي. «جبهة تحرير أورومو» ما زالت تقاوم، والمعارضة في إقليم أورومو، الذي منه رئيس الوزراء، اشتدّت أكثر فأكثر. 

النزعات الإنفصاليّة في إقليمي «بني شنقول» المحاذي للسودان و«أوغادين» المحاذي للصومال، تتصاعد مع الوقت. المسار الذي ستسلكه إثيوبيا سواء كان التفكك أو حسن تدبير الأمر غير محسوم والأرجح أنّه سيتطلّب سنينًا حتى تحكمه أحداث الحرب التي أطلقت شرارتها حكومة تكنوقراطيّة أرادت تكثيف عملها على طمر النظام الإثني واستبداله عبر الإستئثار بمدّة ممدّدة من الحكم، فتصل أعتاب انتخابات تشرين الأوّل القادم والبلاد يتهدّدها نزاعٌ يكاد يدمّر وحدتها. ان استطاعت «الجبهة الشعبيّة لتحرير تيغراي» إعادة بناء تحالف ديموقراطي تقدمي بقواعده في الأقاليم فقد تنجح في إنقاذ إثيوبيا، ومن وراءها منطقة القرن الإفريقي، من العودة إلى مستنقع الإقتتال القومي والعبثي.

 

(1-2-4) الكتاب الأحمر الصغير / ماو تسي تونغ

(3) مثل عربي، «حكايات الأمثال» / أحمد سيد حامد آل برجل