طبيعة التظاهرات الجماهيرية

وقعت صدفة على مقال برجر هذا في ديسمبر 2019 وكان حينها زجير هتافات ثورة أكتوبر يعلو فوق صوت أفكاري. أيأسني. لا شك أني كما الكثيرات\ين غيري شعرنا يوم هبت الثورة بأنّنا جزء من حدث ليس بعابر وأن بمقدوره أن يغيّر مجرى التاريخ- بل كان ذلك ما أردنا له أن يكون. ولكن ماذا يحدث بعد زوال نشوة أبخرة الدواليب المشتعلة وانطفاء حريق المسيّل من أعيننا؟

بدا الشاطئ قريباً في تلك الليلة من أكتوبر، فقفزنا في عرض رومنسية الثورة وسبحنا. أيأسني برجر لأنه أتى يحدثني بذلك الصوت الذي كنت قد خفتّه والذي كان يهمس بخوف أننا ربما، من علو النشوة، أسأنا تقدير المسافات، وستخور قوانا ولن نصل الى الشاطئ وسنبقى معلقين في اللامكان، لن يسعنا العيش فيه وسنعجز عن الهروب منه.


والان، بعد خفوت الحركة وزوال الصوت في الشوارع والساحات، ماذا نفعل؟ هل فعلا فشلنا؟

لم يُجب برجر عن أسئلتي، إنما أخذني المقال من موقعي في قلب الحدث إلى مستقبل بعيد أنظر منه إلى حاضرنا- إلى ماض لم يمضِ بعد. فاليوم ومن صلب اللامكان يختلف عليّ وقع كلمات برجر. يذكرني، بكلمات كثيرة، بأن مخاض الشعوب طويل وأن هذه لم تكن اللحظة التي لطالما انتظرناها دون أن نعرف بأننا ننتظرهاـ لم تكن اللحظة التي سنحصل فيها أخيراً على الحرية المطلقة. كنا فقط نعيش لحظة من ماضي شعب، كانت نقطة في امتداد الثورة التي نريد. يرينا برجر أنفسنا من منظار التاريخ، يدلنا على ما جرى، يفنّد قيمة تحرّك سياسي وردّة فعل سلطة، ويظهّر فيما يظهّر، هشاشة هذه السلطة التي تشهد لها تواريخ الشعوب.
بالنسبة لبرجر، وظيفة الثورة الأساسية ليست التغيير، انما انتاج الوعي. ومن هذا المنظار اختلفت رؤيتي لنتاج ثورة أكتوبر وتداعياتها.
احتللنا ساحات رسمتها وانتجتها سياسات قمع وقهر وتهجير، أزلنا حواجزها، بسطنا فيها فراشنا، وأشعلنا فيها نارنا، وجعلنا منها ساحات لتجليات ابداعات شعب، ولا رجوع عن ذلك. وان لم تكن تلك الثورة هي العرض الأخير- العرض الذي يأتينا بالحرية المطلقة ،هي على الأقل تدريب للثورة القادمة. ومهما بلغ بعد الثورة القادمة، ومهما طال التدريب، في النهاية، المدينة لنا لا محال.

 





منذ سبعين عاماً، في ٦ أيار(مايو) ١٨٩٨، اجتاحت وسط مدينة ميلان الإيطالية تظاهرة عمالية حاشدة من رجال ونساء. ترتبط الأحداث التي أدّت إلى اندلاعها   بتاريخ أطول من أن يعالج في هذا المقال، إنّما النتيجة كانت أن الجيش، تحت إمرة جنرال حرب اﻹستقلال الإيطالية "بكّاريس" هاجم المتظاهرين عند الظهيرة وفضّ التظاهرة. حاول العمّال العزّل رفع المتاريس بوجه هجوم الخيّالة، فأُعلن القانون العرفي وحارب الجيشُ المدنيين طوال ثلاثة أيّام.

 

كان التعداد الرسمي لضحايا ما عُرف لاحقاً بمجزرة بكّاريس هو ١٠٠ قتيل و٤٥٠ جريح من العمّال، وقتيل واحد من الشرطة سقط عن طريق الخطأ برصاصة جنديّ، من دون أي إصابات من الجيش. بعد سنتين، ستكون هذه المجزرة هي سبب اغتيال ملك إيطاليا أومبرتو الأوّل الذي هنّأ الجنرال بكّاريس ،"جزّار ميلان"، علنياً بنجاحه في فضّ المسيرات.

 

لما كنت منكبّاً على دراسة بعض مظاهر أحداث ٦ أيار(مايو) في أحد شوارع ميلان الراقية توصّلت إلى بعض الاستنتاجات التي يمكن أن تنطبق على المسيرات الجماهيريّة بشكل أشمل.

 

أولاً، يجب التمييز بين ما هو تظاهرات جماهيرية  وما هو أعمال شغب وعصيان وما هو انتفاضات ثوريّة، مع العلم بأنه يمكن لإحداها أنّ تتحوّل تحت ظروف معيّنة، في ما ندر، إلى إحدى الحالتين الأُخريين. إنّ أهداف أعمال الشغب تكون عادة ملحّة وفوريّة، تماشياً مع حالة اليأس التي تعبّر عنها، وتتبلور بأعمال مثل الاستيلاء على موارد وتحرير مساجين وتخريب أملاك. أمّا الانتفاضات الثوريّة فلها أهداف طويلة الأمد وذات إدراك أشمل وأوسع يتأوّج بالاستحواذ على السلطة. وأما التظاهرة فهي رمزيّة: إنها تستعرض بزخمها قوّةً قلّما تستطيع استخدامها.

تجتمع أعداد كبيرة من الأشخاص في مكان عام مكشوف ومعلن مسبقاً. يكون المحتشدون عزّلا إلى حدّ ما ( في أحداث ٦ مايو كانوا كلّهم عزّلاً) ويقدّمون أنفسهم هدفاً سهلاً لقوات قمع السلطة الحاكمة التي يحتجّون على سياساتها.

 

نظريا، تهدف التظاهرات إلى إظهار قوّة الرأي العام، وهي بذلك تناشد الضمير الديمقراطي للسلطة. ولكن ذلك يفترض مقدّماً، وهذا أمر بعيد الاحتمال، وجود ذلك الضمير.فإذا كانت السلطة الحاكمة على استعداد للتأثّر بالرغبة الشعبيّة لن يكون ثمّة داع للتظاهر طويلاً. أما إذا لم يكن لديها هذا الاستعداد فمن غير المحتمل أن استعراض القوّة هذا، الذي لا يشكل تهديداً حقيقياً، سيكون كفيلاً لحثّها على الطاعة. إلّا أنّه وفي حالات خاصّة، كما عندما دخل غاريبالدي مدينة نابولي عام ١٨٦٠، يمكن للتظاهرات التي تدعم سلطات بديلة مشكّلة مسبقاً أن تنجح فعلاً بتحقيق أهدافها فوريّاً.

 

ولكن لطالما تظاهرت الشعوب في ظلّ أنظمة غير ديمقراطية. فحركة الميثاقيين البريطانيّة على سبيل المثال كانت ساحة صراع للاستحصال على شكل من أشكال الديمقراطية [ولكنها فشلت]. والجماهير التي احتشدت في سانت بطرسبرغ عام  ١٩٠٥ [يوم الأحد الدّامي] لتقدّم العريضة الى القيصر كانت تناشد حكماً ملكياً عديم الرأفة وتعرض نفسها فريسة سهلة لبطشه، فقُمعَت كما مئات التحركات المشابهة في أنحاء أوروبا. على ما يبدو فالتغيير ليس الوظيفة الحقيقيّة للتظاهرات الشعبية، إنّما هو مجرد تبرير مؤات تعطيه لنفسها.

 

في الحقيقة ان التظاهرات الشعبية هي تدريبات على الثورة القادمة: ليست تدريبات استراتيجية أو تكتيكيّة، إنّما تدريبات على الوعي الثّوري. والمسافة الزمنية بين هذه  التّدريبات وبين الثورة الحقيقيّة قد تطول، وفاعلية هذه التدريبات، أي مدى الأثر الذي تتركه على الوعي، قد تختلف بين تّجربة وأخرى. أمّا التّظاهرات التي لا تنتج أبداّ وعياّ ثوريّاً فالأجدر وصفها بإستعراضٍ سلطويٍ.

 

والتّظاهرة، مهما اتّسمت بالعفويّة، تبقى حدثاً مفتعلاً يميّز نفسه عن مجريات الحياة اليوميّة. فقيمة التظاهرات تكون في طبيعتها المصطنعة، وهنا تكمن قدرتها الملهمة المهيّئة للثورة.

فالتظاهرة تختلف عن أي تجمّع آخر بكون غايتها تَخلق نتيجة حشدها، بدل أن تَخلق حشداً استجابةً لغاية ما، مثل تجمّع عمّال في مكان عملهم حتى ولو كانوا معتصمين، أو مثل حشد من الجماهير لنشاط معيّن. فحشد التظاهرة [هو الغاية بحد ذاته] ويمثّل فعل التّحدي لحقيقة ما.

عادة ما تكذب السلطات وتحاول التعتيم عن الأعداد الحقيقيّة للحشود، إلّا أنه لا جدوى من هكذا تضليل طالما أنّ التظاهرة لا تناشد ديمقراطيّة السلطة. الأهمّية الحقيقيّة للأرقام تقع عند المشاركين بالتظاهرة وعند مؤيّديها، فهنا تتحوّل الأرقام إلى دلائل ترسّخ لهم معتقداتهم. كلّما كبر الحشد، زاد تمثيله للقوّة الجماعيّة.

 

نقول تمثيل لأنّ القوّة المتمثّلة هنا تتعدّى القوّة الحقيقيّة للمحتشدين، كما تتعدّى القوّة التي توظّفها التظاهرة فعلاً. كلّما كبر الحشد، ازدادت قناعته بأنّ تمثيله يتعدّى وجوده. هكذا يتّسع تمثيل التظاهرات الحاشدة ليجسّد وجوداً مجرّداً، فيدرك المتظاهرون أنّهم ينتمون الى فئة [طبقة] لها مصير موحّد، فتتحوّل وحدة المصير هذه الى فرصةٍ لخَلاصهم، ويبدأ إدراكهم بأنّهم يمتلكون القدرة، كما التظاهرة، على خلق غايتهم بأنفسهم.

يكمن التدريب على الوعي أيضاً  في عملية اختيار مكان التجمّع. فالتظاهرات هي بطبيعتها ممارسات مَدينيّة، ويُخطّط قيامها في أماكن ذات رمزية مَدنية أو وطنية، ونادراً ما يكون موقعاً استراتيجياً أمنيّاً مثل المطار أو محطات القطارات، وذلك لأنّ التظاهرة تمثّل مجرّد احتلال رمزي للمدينة أو للعاصمة. ومجدّداً، تكون هذه الرمزية والتمثيل لصالح المتظاهرين.

 

والتظاهرات هي أحداث مفتعَلة غير اعتيادية تعيق المجريات الطبيعية للحياة اليومية في الأماكن التي تحتلّها، وبذلك تعزل هذه الأماكن، كونها غير قادرة بعد على احتلالها مطلقاً، وتحوّلها إلى مسارح مؤقّتة تتجلّى فيها مظاهر سلطةٍ ما زالت غير مكتسبة.

 

 وبذلك تتغيّر نظرة المتظاهرين إلى المدينة المحيطة بمسرحهم. فبتظاهرهم يستعرضون حرّيتهم واستقلالهم وقدرتهم الإبداعيّة التي، ولو أن ابتكاراتها رمزيّة، تبقى متفوّقة على أي إبداع فردي أو جماعي ينتج عن ممارستهم للحياة الطبيعية. ففي ممارساتهم الطبيعية هم يحاولون تغيير الظروف، أما بالتّظاهر فهم يضعون وجودهم في مواجهة مع هذه الظروف. 

 

لذلك فإن هذه الابداعات تكون ناتجة عن يأس، وقد تكلّفهم غالياً، إلّا أنها، ولو للحظة، تغيّر نظرتهم إلى محيطهم، ويصبحون على يقين بأنهن\م هن\م من بنى المدينة وهن\م من يصونها. ينظرون إليها بعيون جديدة. يرونها كنتاج لهم وكبرهان لإمكاناتهم الكامنة.

 

وهناك طريقة أخيرة تدرّب بها التظاهرات على الوعي الثوريّ. فالمتظاهرات\ون يعرضون أنفسهن\م كهدف لقوّات السلطة الحاكمة، وكلّما كبرت أعدادهم زاد خطر استهدافهم، إلا أنه وفي الوقت عينه، زاد شعورهم بالقوّة؛ قوّة لا تفسّرها الأعداد أو سيكولوجيا الحشود، إنما تتفسّر بما تشكّله من معضلة للسلطات.

فهنا السلطة إمّا ستتنازل وتسمح للحشود بأن تتصرّف بحرّيتها، ما يظهر ضعف السلطة، وبذلك تحوّل القوة الرمزيّة للتظاهرة الى قوّة حقيقيّة، حتى لو لم تصل إلى النصر في نهاية المطاف؛ وإمّا ستلجأ للعنف ومحاولة تفريق التظاهرة مجاهرةّ علنا عن لا-ديمقراطيتها. فتكون المعضلة في الاختيار بين إظهار الضعف وبين استخدام سلطة القمع (التظاهرات المحرًّكة من قبل السلطة أو الداعمة لها لا تفرض عليها هذه المعضلة، ولذلك وجب وصفها بالإستعراض). وفي أغلب الحالات، تختار السلطة اللجوء الى القوّة. ويعتمد مقدار القوّة الذي تستخدمه على عدّة عوامل، ولكن نادراً ما يعتمد على حجم التهديد الحقيقي الذي يشكّله المتظاهرات\ون، لأن هذا التهديد رمزيّ بطبيعته. ولكن بهجومها على التظاهرة تكون السلطة حوّلت هذا الحدث الرمزي وكرّسته كحدث تاريخي: حدث تتذكّره الشعوب وتتعلّم منه- حدث لتثأر له.

 

من طبيعة التظاهرة أن تثير ردّات فعل عنيفة. وحتّى لو كانت هي بذاتها عنيفة إلّا أنّ مصيرها هو أن تلقى عنفاّ أكثر من العنف الذي تتسبّب به. هذه حقيقة تكتيكيّة كما هي تاريخيّة، فالدور التاريخي للتظاهرات هو إظهار ظلم السلطة ووحشيّتها وتخلّفها. وبذلك تكون التظاهرات هي  تجلّياتٌ للبراءة.

 

والبراءة هذه نوعان يمتزجان رمزيّاً، أمّا سياسيّاً ولأغراض التخطيط الثوري، فيجب التفريق بينهما. هناك براءة يجب الدفاع عنها، وبراءة علينا أن نخلعها. الأولى تُرتجى من العدالة، والثانية هي نتاج انعدام الخبرة.

 

تعبّر التظاهرات عن طموحات سياسيّة لم تولَد بعد السّبل السياسية الضرورية لتحقيقها. فبذلك تصبو التظاهرات إلى تحقيق طموحاتها وقد تساهم في تحقيقها، ولكنّها لا تستطيع تحقيقها بنفسها.

 

والسؤال الذي يتوجّب على الثوار الإجابة عنه في أيّ حدث تاريخي هو عما إذا ما زال هناك حاجة إلى تدريبات رمزيّة إضافيّة أم أنّ الوعي الثوري قد نضج فعلاً. فالمرحلة التالية هنا تكون التدريب التكتيكي والاستراتيجي للعرض الأخير.

 

________________________________________________________________

نشر المقال الأساسي خريف 1968 في New Society اعيد نشره في العام ذاته في International Socialism.

تمت الترجمة في كانون الأول (ديسمبر) 2019، في بيروت

ترجمة جنى حيدر

تصحيح جنى نخال