مهدي عامل ومنطق النظام الطائفي الضامن لاستمراريته

في خضم نقاش يتناول أسباب أزمة النظام اللّبناني الّتي أوصلت البلد إلى حربه الأهلية، ردّ مهدي عامل (1936-1987)  في كتابه "في الدولة الطّائفيّة"(1986) باستفاضة على مجموعة متنافرة من المفكّرين والكتّاب،

وناقش على وجه الخصوص جملة من الأفكار الّتي طرحها منظرو اليمين اللّبناني من تلامذة ميشال شيحا، أفكار كان اتجاهها العام يصل إلى نتيجة واحدة واضحة، مفادها أن أزمة الكيان اللّبناني تعود بالدرجة الأولى إلى عوامل وتأثيرات خارجية، لا سيّما الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري من جهة، كما انعكاسات الصراع العربي - الإسرائيلي على لبنان من جهة أخرى.

اعتبر "عامل" أنّ النّظام الطائفي في لبنان هو الشّكل السياسي الّذي قررت قوى البرجوازيّة الكولونياليّة اللّبنانية تثبيته كنظام تحكم به البلاد بشكل نهائيّ، وذلك انطلاقًا من رؤيتها لأفراد الشعب على أنهم أبناء جماعات طائفيّة قبل أيّ شيء آخر. ذلك أن الطائفة، بالنسبة إلى هذه القوى، هي الوحدة الاجتماعية الأولى الّتي يتكون من مجموعها الكيان اللّبناني، ولا يمكن  بالتالي حكم هذا الكيان إلا بصيغة تجمع هذه الوحدات في نظام حكم واحد.

 من هذا المنطلق، شرح عامل رؤيته عن الأزمة البنيوية للنظام الطائفي، موضحاً أن طبيعة هذا النظام هي بالضرورة سبب أزمته، ذلك يعود إلى أن النظام الطائفي لا يقوم إلا عبر "توازنٍ" بين مكوّناته الطائفية، ما يعطي القوى الكبيرة فيه حق الفيتو، إلا أن هذين العنصرين - التوازن والفيتو- ينقلبان ليصبحا حجر العثرة الأساسي الّذي يوقف دوران عجلة النظام، كما أنّ طبيعة هذا النظام تفضي دائماً إلى هيمنة سياسيّة أو ماليّة لطائفة معينة على حساب الطوائف الأخرى (كما كان الحال مع المارونية السياسية منذ الاستقلال حتّى الطائف)، وهنا السؤال يكون كيف يمكن تحقيق التوازن بين الطوائف في ظل هيمنة طرف محدد على الأطراف الأخرى؟ وكيف يمكن أصلاً أن يتجاور التوازن مع الهيمنة في نظام واحد؟ هذه إحدى التناقضات الرئيسية في الصّيغة اللّبنانية التي يعجز منظرو القوى الطائفية عن معالجتها. وبناء عليه، مكتوب على هذا النظام تكرار أزماته العميقة الّتي تتجدد بأشكال تختلف باختلاف ظروف التطور الداخلي للبنى الاجتماعية اللبنانية وباختلاف السياق الإقليمي والدولي الذي يؤثر مباشرة عليه.

أوضح عامل أيضاً كيف حاول الفريق الطائفي الأكثر هيمنة في حينها، أي المارونية السياسية، الدفاع عن شرعية النظام واستمراريته والرد على المحاججات التي تطالب بضرورة تحويله إلى نظام علماني ديمقراطي، وذلك عبر اللجوء الى منطق يسعى دائماً لتصوير مشاكل الكيان على أنها نتاج عوامل خارجية خارجة عن طبيعة النّظام وسيطرته وإرادته، وأنّ التناقضات الطبقية والطائفية والسياسية والمناطقية الخ... لا تعدو كونها عوامل ثانوية التأثير في أفضل الأحوال. هكذا تعامل الفريق الطائفي الأكثر هيمنةً زمن الحرب مع أزمة نظامه الحتمية: إنها "حرب الآخرين على أرض لبنان" كما أطلق عليها غسان تويني.

إن أهم ما يُستنتج من كلام "عامل"، بالإضافة إلى توضيحه المنطق الذي تستعمله القوى الطائفية لتبرير الأزمات الحتمية المتعاقبة التي تصيب نظام حكمها، هو إيضاحه كيف أن أسباب هذه الأزمات تكمن في جوهر النظام الطائفي نفسه وهي مستمرة باستمرار وجوده، فأسباب وجوده هي هي أسباب أزماته وأن أي تجديد له (كما حصل عام ٨٩ في الطائف)  نتيجة استغلال ظروفٍ اقليمية ودولية مواتية، لن يفعل أكثر من تأجيلٍ للأزمة التالية. بالتالي، إنّ أزمة النظام البنيوية، لن تنتهي عند تجديده بصيغٍ اخرى، بل تنتهي فقط بالقضاء عليه، وبالانتقال الى شكلٍ من أشكال الحكم اللاطائفي.

يمكن، انطلاقاً من تحليلات عامل،  أن تُفتح المقارنة بين كيفية تعامل أقطاب النظام والقوى المهيمنة فيه مع أزمتيه العميقتين: أزمة الـ ٧٥ وأزمة ٢٠١٩، مع اختلاف الأشكال التي تمظهرت فيها الأزمتين تبعاً للظروف الداخلية والخارجية.

بدءاً من تشرين ٢٠١٩، سيطرت سرديتان رئيسيتان على قوى النظام الطائفي لتبرير وتمرير هذه الأزمة بأقل ضررٍ ممكن على بنية النظام. السردية الأولى، صدرت عمّن اصطلح على تسميتهم سابقًا بقوى ١٤ آذار، وقد لجأت هذه القوى إلى رواية الهيمنة الإيرانية كمسببٍ رئيسي للانهيار. حسب هؤلاء كان وصول حليف حزب الله الى سدة رئاسة الجمهورية، ثم حصول تحالف ما عرف سابقاً بقوى الثامن من آذار، على الأكثرية البرلمانية بعدها بعامين، ما أدى إلى توقف القوى الدولية والإقليمية "الصديقة" رعايتها للبنان، وسحب أموالٍ وودائع، ومنع دخول أموالٍ وودائع أخرى، كما جرت العادة لتشغيل النظام المالي والنقدي في البلد كما وضع بعد الطائف، الأمر الذي سرّع في وتيرة الأزمات التي وصلت أخيراً إلى لحظة الانفجار. 

لا عجب في صدور هكذا رواية عن قوى تقع في صميم النظام، قوى لا تحتاج لكثير من البحث في جوهرها لنكتشف أنها نتاج تحالف الطغمة المالية والمصرفية والهيئات الاقتصادية مع الأحزاب الطائفية وإعلامها، حيث المصالح المشتركة والمتداخلة، بل لنقل، الواحدة، بين هذين العنصرين (أي أحزاب قوى ١٤ آذار الطائفية من جهة، والطغمة المالية والمصرفية من جهةٍ ثانية)، هي المحرك الأساسي لخطاب هذه القوى وسلوكها، خاصةً فيما يتعلق بالانهيار الأخير وآثاره. من الطبيعي أن يعمد هؤلاء المتفاخرون بعصر نيوليبرالية رفيق الحريري "الذهبي" واقتصاده الريعي، لحظة انهيار هذا النظام المالي والنقدي، إلى البحث عن شماعةٍ لتحميلها مسؤولية الفشل الطبيعي والمتوقع، وتحميلها ايضاً مسؤولية أزمة جديدة من أزمات النظام الدورية التي تعتبر من أهم السمات الثابتة للنظام الطائفي. لم تجد هذه القوى في خضم بحثها عن "الشّمّاعة"، أنسب من قوة خارجية معادية سياسيا للمحور الأميركي- الخليجي التابعة له، فكانت إيران وهيمنتها المزعومة هي الجواب الذي بحثت عنه لمواجهة تساؤلات جماهيرها عمّا حدث. 

في المقابل، لا شك أن القوى السياسية اللّبنانية الحليفة لإيران اضطلعت بدورٍ رئيسي في دينامية الانهيار وأسبابه، خاصة بعد غلبتها السياسية الواضحة على الساحة اللبنانية في العقد الأخير، إلا أن السردية التي يحاول الفريق الاول (أي أصحاب رواية الهيمنة) إثباتها، والتي تصور أن البنية الإقتصادية والمالية كانت، حسب زعمهم، فعّالة ومثاليّة إلى اليوم الذي تدخل فيه الشبح الفارسي وعطلها، ما هي إلا تشويهٌ واضح لمسار طويل من التراكمات، الناتج عن أزمة النظام بذاته، قبل أي تأثير خارجي مهما عظُم.

أما سردية الفريق المقابل، والتي وجدت أيضاً اصداءً واسعة في دوائر اليسار الممانع، عمدت إلى تحميل الانهيار والتحلل المتسارع للمجتمع ومؤسساته في العامين الأخيرين بشكل مباشر وشبه حصري لل "حصار الأميركي"، الذي اشتد على كل الدول والقوى التي تنتمي الى المحور المعادي للسياسات الأميركية في المنطقة، خاصة بُعيْد وصول دونالد ترامب لسدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية. أهم ما ساعد أصحاب هذه السردية هو الوجود  الفعلي لشبكة علاقاتٍ ونفوذ واسعة للاميركيين في البلد، وكذلك تبعية فريقٍ واسع من الأحزاب والشخصيات ووسائل الإعلام والمصارف المباشرة للسياسات الأميركية، إضافةً لقيام إدارة ترامب بفرض عقوباتٍ اقتصادية على حزب الله وعلى شخصياتٍ مقربة وحليفة له، وغيرها من المظاهر التي تشكل تعبيراً عن الدور الأميركي العدواني في البلد والمنطقة ككل.

استغل اصحاب السردية المذكورة هذه التأثيرات الاميركية الموجودة فعلياً منذ زمن، ليقوموا بعملية إختزالٍ وإلغاء جميع التناقضات الداخلية، والعوامل والتراكمات السياسية والاقتصادية، والتجاذبات الأبدية داخل النظام الطائفي (وهم الذين يشكلون اليوم جزءاً اساسياً منها) بهدف إخفاء مسؤوليتهم المباشرة عمّا آلت إليه الأمور، كفريق يشكل جزء حيوي وأساسي في النظام الطائفي اللبناني. رواية الحصار هذه تفاعلت بشكل خاص بعد حادثة إدخال المازوت الإيراني الشهيرة منذ عدة أشهر، هذه الحادثة التي استغلها حزب الله بطريقة هزلية لتأكيد وتضخيم روايته عن أسباب الانهيار وحصرها بالحصار المزعوم. هذه المبالغات والمقارنات، وقبل أن تكون إهانة لذكاء أنصار هذا الفريق وقواعده الشعبية، فهي تشكل في الدرجة الأولى إهانة لشعوب دولٍ أخرى كثيرة، عانت على مدى عقود من شر الحصار الأميركي الفعلي وسياساته العدوانية، فلا إهانة أكبر من استعمال أحدهم مآسي هذه الشعوب في تشابيه ركيكة لتبرير فشله وعجزه ورجعيته الطائفية.

الملفت أكثر كان أن هذا التضخيم في دور الحصار، لم يمنع نفس الفريق من توزير وترشيح والتحالف مع عناصر أساسية مِمّن، اعتاد على تسميتهم بأدوات الحصار الداخلية، من مصرفيين وقوى طائفية وغيرها. هنا يظهر ضعف رواية الحصار المسبب للأزمة، أمام واقع البنية الطائفية لهذا الفريق، واحتياجه لحماية استمرارية النظام الطائفي، مما يدفعه لعقد تحالفات مناقضة لكل خطاباته العلنية في الاعوام الاخيرة.

بالعودة إلى مهدي عامل، فإن الهدف الرئيسي لقوى النظام، هو تثبيت وتأبيد صيغة حكمهم الطائفي، التي تقوم على فكرة أن الكيان اللبناني تأسس على اتفاقٍ بين عدة جماعات طائفية للعيش معاً في كيان واحد، وأن استمرار وجود هذا الكيان مرتبط باستمرار هذه الصيغة الطائفية، فلا وجود للبنان بدون نظام حكم تتقاسم فيه القوى الطائفية النفوذ ضمن توازنات (أو هيمنات) فيما بينها. لذلك، تعمد عناصر هذا النظام، وفي سبيل ضمان استمرار حكمها، إلى الدفاع عنه في مواجهة أزماته عبر إلغاء دور العوامل الطبقية والاجتماعية والمناطقية والطائفية والسياسية الداخلية، لحساب التأثيرات والعوامل الخارجية حصراً. تدعي هذه القوى أن الصّيغة اللبنانية لا علة فيها وهي مثالية لحكم شعبٍ مؤلف من مجرد "جماعات طائفية"، ما يعني أن أي عطب يصيبه لا بد أن يكون عائداً إلى سبب من فعل الخارج، والخارج فقط.

من حرب الآخرين على أرض لبنان إلى سرديات الهيمنة الإيرانية والحصار الأميركي، يشترك المنطق الطائفي باختلاف عناصره في آلية واحدة لتحليل أزمات النظام العميقة وتبريرها أمام الجماهير، فتسلب بنى البلد الداخلية أي قيمة أو تأثير، وكأنها عالم البشر الأرضي الذي لا حول له ولا قوة إلا إنتظار تعاليم وتأثيرات قوى ما وراء الطبيعة.

من جهةٍ اخرى، ليس المقصود من نقد هذا المنطق إلغاء دور العوامل الخارجية، فلا نقاش حول مدى وجودها وتأثيرها الكبير، هذا التأثير الطبيعي والمتوقع نتيجة ولادة الكيان السياسي اللبناني على يد بورجوازية كولونيالية تابعة، ولاحقاً نتيجة تتابع وتفاعل العوامل السياسية والعسكرية في لبنان والمنطقة في العقود الاخيرة، والتي أفرزت محاور وتبعيات واضحة ومباشرة للخارج. إن فهم الأزمة اللبنانية، إذا انطلقنا من منطق عامل (بدلا من منطق قوى النظام)، يكون بشكل أساسي عبر فهم العلاقة الجدلية القائمة بين العامل الداخلي والعامل الخارجي، وفهم التأثير المتبادل الذي يمارسه كل منهما على الآخر، وليس عبر تطيير أحدهما من المعادلة لمصلحة الأخر، كما درج تيار غير قليل من اليسار على فعله، وذلك نتيجة جمودٍ عقائدي حيناً، أو ميولٍ انتهازية وتبعية لقوى سياسية-طائفية معينة احيانا اخرى.