جمول المشعل المضيء في ظلامٍ دامس

كان إعلان تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 أيلول 1982، عند وصول الغزو الإسرائيلي إلى عاصمتنا بيروت، بمثابة المشعل المضيء في ظلامٍ دامس. وقد شكّل إيذاناً بإنبلاج فجر جديد في تاريخ بلدنا، وفي مجمل الصراع العربي الصهيوني، وردّاً ظافراً على الاحتلال.

فقد انبثقت "جمول" من رحم شعبنا والمناخ الوطني اليساري والعلماني. وجسّدت طموح شعبنا في التحرير وطنياً وإجتماعياً. وقد حمل بيان إعلانها توقيع جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني ومحسن إبراهيم أمين عام منظمة العمل الشيوعي، بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين أواخر شهر آب 1982، دلالات واضحة على طبيعة هذه المقاومة وهويتها الفكرية الوطنية والطبقية.
لقد شكلت "جمول" بعملياتها البطولية والجريئة نموذجاً فذاً، ومثالاً على قدرة العمل الشعبي المقاوم في مواجهة العدو الصهيوني وقهره لبنانياً، وبالتالي فلسطينياً وعربياً. وأدّى تكاثر العمليات البطولية، بدءاً من العملية الأولى بقيادة البطل الراحل مازن عبود، قرب صيدلية بسترس- الحمرا، إلى اضطرار الجيش المحتل الى إعلان أنه سينسحب من بيروت. وقد أعطى إنجاز "جمول" بتحرير بيروت زخماً تَمثلَ في بدء اتساع القوى المشاركة في مقاومة العدو.
لقد جسّدت جمّول في أهدافها وبنيتها البشرية، طابعها الوطني اللبناني، وإنّ المقاومين، وبينهم الشهداء، هم أبناء الطبقات الشعبية والكادحة، وليسوا أبناء القصور. ويرون أنّ التحرير من العدو والظلم الخارجي، لا ينفصل عن مقاومة ومكافحة الظلم الاجتماعي الداخلي، وضرورة بناء دولة العدالة الاجتماعية على أساس الديمقراطية والمواطنية. كما أنّهم بإنتمائهم المحلّي من جميع الطوائف والمناطق اللبنانية، إنما يمثلون الوحدة الشعبية والوطنية الحقّة، وليس هواجس طائفة أو مذهب أو منطقة بعينها. وإذ يشعرون بأن لا كرامة لمواطن وطنه محتلّ، كذلك يرون أن لا كرامة حقيقية لوطنٍ أبناؤه جائعون يُذَلّون على يدِ سلطةٍ فاسدة تسرق أموالهم. وإنّ التحرير لا يقتصر على الأرض وصخورها، بل يشمل الإنسان الذي يحرّرها ويعيش عليها ويعمل فيها.
لم تكن المقاومة دخيلة على مسيرة الحزب الشيوعي اللبناني. فنشأته عام 1924 كان في أساسها مقاومة الانتداب الفرنسي من أجل استقلال لبنان من جهة، والنضال ضد الظلم الاجتماعي من جهةٍ أخرى، رافعاً راية الدفاع عن حقوق العمّال والفئات الشعبية الكادحة. ولم يتخلَّ يوماً عن طبيعته الطبقية وطنياً واجتماعياً. علماً أنّ مناهضة الظلم لا تتخذ شكلاً واحداً تبعاً للظروف. فقد ناصر الحزب الشيوعي، الثورة السورية عام 1925 ضد الاستعمار الفرنسي ومشاريعه التقسيمية لسوريا. وامتشق السلاح عام 1969، دفاعاً عن القرى الجنوبية الأمامية التي كانت هدفاً للكوماندوس الإسرائيلي، الذي يُكثر من خرقه سيادة لبنان وحرمة هذه القرى وبيوتها، وينكّل بأبنائها ووطنييها. فأقدمَ الحزب في العديد من هذه القرى على إنشاء الحرس الشعبي من الشيوعيين وأصدقائهم فيها عام 1969، طالما أنّ سلطة الدولة لم تكترث لحماية أهلها، ولا حتى لإيجاد مراكز طبية وملاجئ فيها. كما أقدم الحزب وبعض أحزاب شيوعية عربية على تشكيل "منظمة الأنصار"، لمساندة الثورة الفلسطينية ومواجهة العدو الاسرائيلي 1969-1970 .
لقد كانت مقاومة الاعتداءات الصهيونية حاجة وضرورة وطنية ومحلية. وليس منطقياً الآن إعتبار نزع سلاح المقاومة أولوية في بلدنا المنهار، وطالما أنّ الدولة عاجزة عن حماية لبنان من مطامع وتهديدات العدو الصهيوني. ومن غير المنطقي أيضاً استخدام وزن المقاومة الاسلامية في الصراعات الداخلية، ضد مطالبة الشعب بقضاياه وحاجاته المعيشية وحقوقه الاجتماعية، ولحماية الفاسدين ونظامهم، أو القبول بتنازلات عن حق لبنان في الترسيم البحري مع العدوّ الإسرائيلي. وربطاً بالظروف القائمة، فإنّ مواجهة المخطّطات الأميركية الصهيونية ومقاومتها، تستدعي أشكالاً متعددة، وبين أبرزها داخلياً إغلاق المنافذ والأبواب التي ينفذ منها العدو الخارجي، مثل نظام الانقسامات العَمودية الطائفية، والتبعية اقتصادياً لمراكز الرأسمالية العالمية، استغلالاً لتخلّف رأسمالية النظام اللبناني الذي نشأ اقتصاده التابع في ظل هيمنة الخارج ومصالحه. ولا يمكن حماية التحرير وتثميره داخلياً بالبقاء في حالة اللادولة، وخطر تفكك الكيان، ومناهضة المصالح الوطنية والاجتماعية لشعبنا. فالحرص على إنجازات المقاومة يستدعي المواءمة بين التحرير وبين نهج سياسي يوحّد اللبنانيين التي تفرّقهم الطائفية، ويجسّد مصالحهم بتوفير العيش الكريم، وإقامة دولة المواطنية والعدالة الاجتماعية، وليس بالعكس.
سيبقى شهداء جمول وأبطالها منائر تُضيء طريق التحرير والتغيير.
تحية إلى كل شهيد سقط في مقاومة الاحتلال والظلم الاجتماعي في لبنان.
تحية إلى شهداء فلسطين ومناضلي شعبها ضد الاحتلال الصهيوني.

 

  • العدد رقم: 417
`


موريس نهرا