طب الأسنان "عالدولار"

سابقاً كان يُعتبر طب الأسنان قطاعاً تجميليّاً ثانويّاً مقابل الطبّ العام، لكنّ سرعان ما أدركت الأنظمة الصحيّة أنّ تهميش هذا القطاع يرفع الفاتورة الصحيّة نتيجة الآثار السلبيّة البالغة على صحّة الفرد بحال إهمال الصحّة الفموية لا بل الدور التشخيصي المنوط بطبيب الأسنان خاصّة فيما يتعلّق بالأورام والسرطان.


في لبنان، حيث القطاعات الخدماتية منهارة خاصّةً التربوية والصحيّة منها، لا تزال المعرفة العامّة عن طب الأسنان والصحّة الفموية ضئيلة خاصّة في الشق الوقائي حيث انّ المريض لا يقصد الطبيب إلّا في حالة الألم وتفاقم المرض. لكنّ لهذه الحالة العامّة جانبٌ آخر، وهو الأهم، إنّه الفاتورة الصحيّة. إنّ العلاجات و العناية الوقائيّة في طب الأسنان لا تشملها التغطية الصحيّة في لبنان فيضطّر المريض الى تحمّل كامل كلفة العلاج ولذلك غالباً ما يغيّب جلسات الفحص الروتيني، الضرورية لتلافي تفاقم أيّ مشكلة ومعالجتها في مراحلها الاولى.
لإرتفاع كلفة العلاج في طب الأسنان سببٌ رئيسيّ هو الكلفة الباهظة للأجهزة والمواد المُستعملة من المصدر، زد على ذلك احتكار المستوردين الرئيسيّين للسوق مع غطاءٍ سياسيّ وبالتالي زيادة ربحهم. يضطّر المريض لتحمّل الكلفة كاملةً لسببين هما عدم إدراج وزارة الصحّة للمواد المُستعملة على لائحة المواد الطبيّة المدعومة وعدم تغطية الجهات الضامنة، على رأسها الضمان الإجتماعيّ، لعلاجات طب الأسنان سوى القليل منها. هذا ما حال أيضاً دون تطوّر هذا القطاع عامّةً اذ أنّ ليس بإمكان الطبيب تجهيز عيادته بكامل الأجهزة المتطوّرة اذ لن يكون بمقدور المريض تحمّل الكلفة الناتجة عن هذا التجهيز، بالمقابل هذا ما أوجد فرقاً نوعيّاً في العيادات حسب المنطقة و الشريحة الإجتماعيّة المُستهدفة حتى وصل الحال الى اعتبار بعض الخدمات رفاهيّةً طبقيّة كضحكة "هوليوود" مثلاً.
انّ مصدر هذه المواد هو الخارج بالتالي استيرادهم يتمّ بالعملة الصعبة وهنا "العلقة". مع تسارع انهيار سعر الصرف و تقطّع ما تبقى من شبكة الأمان الإجتماعي، سارعت نقابة أطباء الأسنان الى التحذير من خطورة هذا الأمر على قطاع طبّ الأسنان وبالتالي على الشعب كما عمدت الى الإحتجاج وعقد الإجتماعات مع وزارة الصحّة ومصرف لبنان لكن لم ينتج عنها أيّ حلّ وتقاذفوا الطابة حتى حملها الطبيب والمريض خاصّةً. اليوم يبتاع الطبيب المواد على سعر السوق السوداء ويقلّص قدر الإمكان إجرته، هو أيضاً الذي يعاني من غلاء المعيشة والإنهيار الإقتصادي، لكن لا يخفّف العبىء الهائل على محفظة المواطن المسلوب.
إنّ إستمرار الحال على هذا المنوال غير مقبول وقريباً ستعمد المستوصفات حتّى إلى رفع أسعارها نتيجة إرتفاع الكلفة وغياب الدعم. هناك شقُّ مهني خطيرٌ ايضاً، في ظل الوضع الراهن قد يُضطرّ الطبيب الى المساومة على جودة العلاج من حيث نوعية المواد المستعملة، في إتّباع التوجيهات و المهل الزمنية خلال العلاج وفي الإلتزام بالخطوات الوقائيّة كافّةً من حيث تعقيم الكرسي وغيره من الأسطح بعد كل مريض كما إرتداء اللباس الواقي وتبديله أيضاً وهذه الخطوات مكلفةٌ كذلك. مشاكل الفم والأسنان لا تحلّ بحبّة مسكّن وكلما تفاقمت الحالة إزدادت تكلفة العلاج مثلاً من يغضّ الطرف عن تسوس سنٍّ سيضطر لاحقاً الى قطع عصبه أو قلعه الى جانب معالجة الإلتهاب والبكتيريا القادرة على الوصول الى القلب والتسبب بمضاعفاتٍ خطيرة.
الأزمة ليست في العيادات فقط بل في الكليّات، خاصّةً في الجامعة اللّبنانيّة، حيث انّ الطلاب كما الأطباء يعانون من غلاء الأسعار الجنوني دون أيّ دعمٍ يُذكر. هم الأكثر عرضةً للخطر المحدق بإختصاصهم نسبةً أنّهم يعتمدون على أهلهم لتغطية النفقات التي تبلغ خلال مراحل دراستهم حوالي 9000$. العديد منهم سيضطر الى التخلّي عن حلمه وعن مستقبله الطموح أو سيكسر رقبته الى شبكة العلاقة الزبائنيّة طارقاً الباب العالي بحثاً عن من سيمننه طيلة حياته انّه "جعل منه طبيباً". كالعادة سيسارع "صاحب الهمّة" الى تشكيل صناديق التبرع دعماً لاخيه الإنسان ويتناسى أنّ "صاحب اليد البيضاء" المعهود هو نفسه الذي مدّ يده الى محفظة معيله وأفرغها.
إنّ الشعب اليوم يُحرم مما تبقى من المؤسّسات والقطاعات الخدماتية التي تُمسك بين بعضها حبال شبكة الأمان الإجتماعي وموازنة 2021 أكبر دليل. المطلوب اليوم هو تغيير جذري في السياسات أي في النظام. إن لن يُرسى بديلٌ سياسيّ يقيم دولة العدالة الإجتماعية، دولةً لصالح الشعب وعيشه الكريم، عندها البكاء وصرير الأسنان.